"يوم أن تُحصى السنين"
(1)
أن تستقل بمحض إرادتك واختيارك الحُر في بداية نهارٍ مشرقٍ صافٍ حينًا، وغائم طورًا، وممزن تارة، قطارا سلحفائيَّ العجلات يتوقف متفكِّرًا كالتردُّد والمراودة، متأملا مثل سحابة غريقة، عند أصغر القرى وأكثرها دِيَكَةً وتثاؤبًا، وأقل المدن نصيبًا من الحداثة والصدأ، كما لو كنت تعيد صياغة أعلى مُرتفَع في الأناضول (ونداء ناظم حكمت إلى أحد رفاقه ماثلٌ في واحدة من أجمل قصائده: "إني أناديك من أعلى هضبة في الأناضول، فهل تسمعني"؟، وسأتصور، لأسبابي الخاصة، أن ذلك الرفيق هو وليد الشعيلي ولا أحد غيره)، وذلك -أي ركوب ذلك القطار البطيء- يحدث للمرة الأولى منذ اثنين وثلاثين عامًا: تلك الرَّجرجة الواسنة، والهدوء الفاتر، والتهويدة الحنون التي لا تبالي لمجرد أن القصيدة لا تنام، والتي افتقدتَها كثيرًا (هذا ليس بالضرورة نكايةً بعبدالقادر الجنَّابي: "ثمَّة دومًا في البسيطة/ أمكنة احتياطيَّة لنا/ نحن الذين كقطار دائخ في الظلام".
إذا كان مقعدك في هذا النوع من القطارات، وضمن هذا المدى من الرؤية، مواجهًا عكس اتجاه السَّير الوئيد فإنك تشعر بالمُضيِّ والتلاشي (كما في السينما الروائيَّة)، وذلك أكثر مما تحس بالاستقبال والتعرُّف التَّدرُّجي المحسوب فيما لو كان المقعد مواجهًا نفس حركة الحَبْوِ الحديدي (كما في الرواية).
في هذا النوع من القطارات أنت السِّكة.
(2)
لدى قراءة الرسائل المتبادلة بين سلافوي جيجك وناديا تولوكونيكوفا حين كان الفيلسوف والناقد الثقافي السُّلوفيني في رزانة ووقار الثالثة والستين من العمر والمعرفة، بينما كانت الفنَّانة والناشطة السياسيَّة الروسيَّة في الثالثة والعشرين من سنينها فقط، وذلك ضمن ظروف أقل من مثاليَّة بكثير (تولوكونيكوفا كانت تكتب من السجن الذي نُقِّلت في العديد من أفرعه في تذكارات "غولاغيَّة" حقيقيَّة: "أعمل في ورشة الخياطة من السابعة والنصف صباحًا إلى الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل"، و"لدينا يوم عطلة واحد كل شهر ونصف"، "ولم تستطع الخيَّاطة الجديدة مواكبة العمل، فتم تجريدها من ملابسها وإجبارها على الخياطة عارية"، "وتمَّت مصادرة كل دفاتر اليوميَّات كي لا يتسرب منها شيء إلى العالم الخارجي"، واختصارًا فإننا نتكلم عن مكان فيه "تنغلق المجاري، ويبدأ البول بالطفح في غرفة النظافة، وتطوف فيها قطع البراز")، وكانت رسائل تولوكونيكوفا الصادرة والواردة تتعرض لرقابة دقيقة.. إذًا، لدى قراءة تلك الرسائل، سيتوصل المرء إلى سبعة استنتاجات في الأقل:
الأول هو: "تبقى الماركسيَّة فلسفة عصرنا لأننا لم نتخطَّ الظروف التي أوجدتْها" (سارتر). يبدو أن البعض مِنَّا بحاجة لهذا التذكير الضروري من حين لآخر لأنهم لا يكترثون بأشياء جوهريَّة في حياتنا مثل "فائض القيمة"، وفي بلداننا "فائض السرقة" أيضًا.
الثاني أن التجربة السوفييتيَّة (التي، في عهد التنكَّر والتبرؤ الكاملين هذا حيث "لَيْ طاح الجمل كثرت سكاكينه"، كما يقول مَثَلٌ شعبيٌّ معروف لدينا في الخليج، لها ما لها -خاصة بالنسبة لنا نحن أهل ما أدعوه "العالم الثالث عشر"- رغم كل الذي عليها) كانت -أي التجربة السوفييتيَّة- تتعلق بالماركسيَّة اجتهاديَّة أكثر مما اتصلت بجوهر ماركس نفسه (حيث "كل ما أعرفه هو أني لست ماركسيَّاً"، كما يقول ماركس نفسه).
الثالث هو أن بوتين (في روسيا الرأسماليَّة) هو أفضل استنساخ ممكن لستالِن (في روسيا الشيوعيَّة)، وهو استنساخ يجعل الرأسماليَّة المتأخرة تبتهج بانتصارها الثَّمِل أكثر مما تجعلها تستشعر -ولو ببعض القلق- "الشبح" الذي أنذر به ماركس في مأثوره الدقيق والجارح: "شبح يخيِّم على أوروبا".
الرابع أن الفكر الراديكالي الغربي قد كفَّ عن المجيء -أو أنه لم يعد يجيء فقط- من المراكز الثقافيَّة الأوروبيَّة الكلاسيكية (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا)، بل صار يأتي أيضا من اختمارات ومفاجآت الهامش (برقم يفوق قليلاً مليوني نسمة فإن عدد سكان سلوفينيا أقل حتى من عدد سكان بلاد عظيمة اسمها سلطنة عُمان، مثلاً).
الخامس أنه لا مناص أمام القرن الحادي والعشرين من إجراء مصالحة حقيقيَّة وكبيرة بين ماركس ونيتشه (موافقة فرويد على تلك المصالحة مضمونة، وهي من باب تحصيل الحاصل تقريبا).
السادس هو التوكيد على عدم تلغيز العالم وحركة التاريخ (وقد يكون ذلك بدوره توكيدا على ماركس: "إن الناس هم يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه كما يشتهون، لا يصنعونه ضمن ظروف من اختيارهم"، "البرومير الثامن عشر للويس بونابارت"). لكن التغيير، الذي رغبته وأشواقه تتأجج في المجموع، بحاجة دوما إلى أناس استثنائيين: إنه الثائر "المُخاطِر" في توصيف جيجك.
أما السابع فهو أنه لا ينبغي التوقف عن احترام تشومسكي لمجرد أن لديه حسًّا ثقيل الظل للدعابة: "جيجك يفتقر لأي نظريَّة فعليَّة، ويمكن شرح كل ما قدَّمه في خمس دقائق فقط لطفل في الـ12 من العمر"!
(3)
السخافة ضربٌ من ضروب الأداء/ العرض بمعنى: "performance". بهذا المعنى فإنه ينبغي "النَّظر" إليها (والاستمتاع بها للحد الأقصى الممكن) بوصفها ضراعة في تذرُّعات الفرجة غير مدفوعة الثمن.
(4)
الذاكرة هي الاختراع الأسوأ لنفسها، وفي حالات كثيرة، ينبغي الحديث عنها بمعزل عن الكلام عن النسيان.
(5)
إلى نيلغون مرمرة:
لا تندمي على جراح ترفرف في السماء
لا تترددي
اتركي آخر الحسرات على الشرفة
وطيري
(واأسفاه، أسكنُ في الدور العاشر، وأنت اكتفيت بالخامس)
وبعد خمسين سنة
سأجد أشعارك وأطيارك في مكتبة مهملة
غُبَّ قرية صغيرة
تناحر عليها الأتراك واليونانيون ثمانية قرون.
(6)
الكرامة ليست صفة، ولا اسما، وليست ظرف زمان، ولا ظرف مكان، ولا مجازا، وليست استعارة، ولا كناية، ولا تشبيها.
الكرامة ليست أن تستقتل دفاعا عنها في هذا الأمر، وتناصرها في ذلك الموضوع، ثم تحيِّدها في ذلك السؤال، وذلك كي تتخلى عنها تماما في ذاك الشأن.
الكرامة هي التضحية بالأظافر لصالح أعلى صخرة في أكبر جبل تجعلها تتكئ على شرايين الطحال وأسنانك.
الكرامة هي أن تكون في القيامة، وليس في الأعراف، والكرامة أن تكون في الجرح، وفي الملح دوما.
الكرامة فعلٌ تراكميٌّ مستمر، وجوديٌّ، ديموميٌّ، نَشِطٌ، ينتهي إذا ما نكص الدأب.
الكرامة هي المحصِّلة النهائيَّة لكينونتك وصيرورتك بعد رحيلك، وهي ما هو أنت "يوم أن تحصى السنين"، وفي النسخة الإنجليزيَّة "ليلةَ أن تُحصى السنين" (أجيز لنفسي هنا استعارة العنوان الفرعي للفيلم الروائي اليتيم -بكل معاني الكلمة- "المومياء" لشادي عبدالسلام).