يوسف إدريس والقضية الفلسطينية
ظهيرة يوم السبت؛ الثامن من يوليو 1972م، كان الشاعر الفلسطيني المقيم في مصر مُريد البرغوثي يجري لقاءً أدبيًّا في إذاعة القاهرة حين بلغه خبر اغتيال إسرائيل الأديبَ الفلسطيني غسان كنفاني في بيروت في اليوم ذاته. هرع من فوره مع الأديب المصري سليمان فياض إلى مبنى جريدة «الأهرام» لمقابلة الأديب الكبير يوسف إدريس، الذي تمر هذه الأيام ذكرى ميلاده السابعة والتسعون (وُلِدَ في 19 مايو 1927م). طلبا منه المساعدة في إقامة جنازة رمزية لكنفاني في القاهرة تتزامن مع ساعة تشييع جنازته في بيروت، فرحب بذلك دون تردد. أقيمت الجنازة الرمزية التي مشت من مقهى ريش إلى نقابة الصحفيين وشارك فيها ما يقارب الخمسين كاتبًا، حسبما روى البرغوثي في كتابه «رأيتُ رام الله»، وعندما وصلوا إلى النقابة أخذ رجال الأمن المصري يوسف إدريس إلى الداخل وبقي الآخرون في حديقة النقابة ينتظرون خروجه. وجه الضابط لإدريس سؤالا محددا: «هل كان معكم فلسطينيون في المسيرة؟» فأجاب: «أنا حقول لك أسامي الخمسين شخص كلهم. اكتب عندك: يوسف إدريس، يوسف إدريس، يوسف إدريس، يوسف إدريس، يوسف إدريس، يوسف....»
لأول وهلة يستطيع المرء أن يستنتج من هذه الحكاية ارتباط الأديب المصري الكبير بالقضية الفلسطينية، وإيمانه العميق بها. ويمكن أن يضيف إليها مقالاته في جريدتَيْ «الجمهورية» و«الأهرام» المحتفية بانطلاق الكفاح المسلح من قبل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965م، وحرصه على الحديث الدائم في إذاعة فلسطين (التابعة لـ«صوت العرب»)، وصولًا إلى موقفه الرافض لمعاهدة كامب ديفيد. غير أن مقاربة موقف يوسف إدريس «الحقيقي» من القضية الفلسطينية هي مهمة شائكة ويحفّها الكثير من التعقيد، ليس تشكيكًا في مواقفه لا سمح الله، ولكن لأن هذه المواقف، كانت تناقِضُها أحيانًا مواقفُ أخرى مضادة.
على سبيل المثال نشر إدريس كتابه «البحث عن السادات» بعد ثلاث سنوات من اغتيال الرئيس المصري، وانتقد فيه معاهدة كامب ديفيد وخَلُص فيه إلى أن «موقف السادات إما خيانة، وإما تفريطٌ لحدّ أقصى درجات الخيانة»، في حين يخبرنا بشري عبد المؤمن في كتابه «أنا يوسف إدريس» أن الأديب الكبير كتب مقالًا ذا مضمون آخر في جريدة «الأهرام» بتاريخ 9 ديسمبر 1977م، أي بعد عشرين يومًا فقط من زيارة السادات إلى القدس وخطابه الشهير في الكنيست الإسرائيلي، حمل عنوان «المعركة معركتنا نحن»، أيّد يوسف إدريس فيه بوضوح سعي السادات للسلام، يقول في هذا المقال: «لا يوجد عاقل واحد يستطيع أن يقول للرئيس السادات: أخطأتَ. ذلك أن السلام ليس هو الخطأ، إن الحرب في أحيان تكون الخطأ، بل أحيانًا الجرم الأكبر».
من السهل هنا اتهام إدريس بالتلون وتقلّب المواقف، لكن علينا أن نتذكّر أنه عُرِضت عليه جائزة نوبل بالمشاركة مع كاتب إسرائيلي فرفض هادرًا: «هل تريدون مني أن أتقاسمها مع كاتب إسرائيلي؟ هل ترغبون في صورة جديدة لجائزة بيجن - السادات؟»، ولو أنه وحده مَن روى الواقعة لأمكن التشكيك فيها، غير أن الكاتب السويدي شل اسبمارك – عضو الأكاديمية السويدية التي تمنح الجائزة – أقرّ بهذه الحادثة في كتابه «جائزة الأدب» الصادر عام 2001م، فقط مع تغيير تفصيل صغير، وهو أن الذي عرضها على إدريس هو أحد قادة الأحزاب السياسية في السويد وليس لجنة الجائزة كما صرح إدريس مرارًا.
من هنا نفهم خيبة الأمل الشديدة التي انتابت إدريس بعد إعلان فوز نجيب محفوظ بنوبل عام 1988، واتصاله بالفنانة فاتن حمامة ليخبرها أنه الأحق من محفوظ بهذه الجائزة، ثم انخراطه في سلسلة تصريحات تهاجم محفوظ وتتهم الصهيونية العالمية بمنحه الجائزة لموقفه المؤيد لمعاهدة كامب ديفيد، رغم أن إدريس قبل إعلان الجائزة بسنتين فقط، وتحديدًا في عدد سبتمبر 1986 من مجلة الهلال المصرية أجاب عن سؤال الصحفية هبة عادل عيد: «إذا عُرِضتْ عليك جائزة نوبل هل ستقبلها؟» بقوله: «نعم سأقبلها، وإن كنتُ أرى أن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ أحق مني بالجائزة»!
وبالعودة إلى موقفه من فلسطين نستعيد إجابته في حواره المطول مع الكاتب الفلسطيني حسن حميد الذي سأله عن محمود درويش، فأجاب: «إنه ليس شاعرا فقط، إنه ظاهرة إبداعية، شأنه في ذلك شأن ظواهر إبداعية فلسطينية أخرى، مثل: جبرا إبراهيم جبرا، وإحسان عباس، وإدوارد سعيد، وغسان كنفاني، وأنيس صايغ»، مضيفًا أن «مرجعية هذه الظواهر الإبداعية ليست الثقافة والمعرفة والفنون وحسب، بل هي سيرة الشعب الفلسطيني التاريخية، هذا الشعب الذي ظلّ عصيًّا على الاندثار والانحناء رغم كلّ ما تعرّض له من أذيات مهولة لأنه شعب خُلق للعمران والحضارة والإبداع في برزخ حضاري واقع بين قارتي آسيا وإفريقيا».
خلاصة القول، يبدو لي موقف يوسف إدريس من القضية الفلسطينية - في الصورة الكلية – منسجمًا مع احتفائه ككاتب طليعي بالحرية والعدالة الإنسانية، والذي تجسّد أيضًا في انخراطه في الثورة الجزائرية في شبابه. أما مجاملته للسادات في ذلك المقال عام 1977 فيمكن فهمه من العلاقة الخاصة التي كانت تربطه بالسادات في ذلك الوقت، والتي جعلته يكتب ثلاثة كتب تحمل اسم السادات معتبرًا ذلك «مهمّة وطنية عُليا»، ولعل موقفه من كامب ديفيد في ذلك الوقت المبكّر (حيث لم توقّع المعاهدة بعد، ولم يقف أحد على نتائجها وتداعياتها) كان نابعًا من إيمان حقيقيّ أنها يمكن أن تؤدي إلى سلام دائم.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني