«ينهار» بدلا من «يوشك على ذلك»
مع مرور الوقت وتكرار ما يحدث في غزة الآن خلال الأعوام الماضية، بدأنا ندرك نوعا من نمط التعاطي مع هذه الكارثة، إذ يتبنى معظمنا خطابا اعتذاريا، نُسَوغ من خلاله أن موقفنا لا يعادي السامية، وإنما يلتزم بمقاومة «الصهيونية» كحركة سياسية شردتنا وهجرتنا وقتلتنا، وربما ومن دون أن نحس بذلك، تأتي هذه «الاعتذارية» من موقف كولونيالي، إذ إن الغرب هو من يشعر بالذنب، هو من تسبب بالهولوكوست، لم نكن جزءا من هذا يوما، وعلينا أن نتذكر هذا بلا هوادة، لسنا في السياق نفسه مع الأوروبيين في تعاطيهم التاريخي مع اليهود، هذا من جهة.
أما من جهة أخرى، فإن محاولتنا لمقاربة ما يحدث في المنطقة، يقتضي بالضرورة الإحالة للحربين العالميتين الأولى والثانية، فما الذي يحدث معنا إزاء لما حدث هناك. من جديد يعاد تعريفنا وفي سياقات عديدة بالنظر للمركز، لما هو معروف ومألوف بالنسبة للأوروبي والأمريكي. ربما يقول أولئك الذين يتبنون هذا النوع من المقاربات إنهم بهذا يحاولون كسب تضامن أكبر عدد ممكن من الأوروبيين والأمريكيين الذين يمكنهم وعبر الضغط الشعبي التأثير على سياسات دولهم الخارجية، لكن أما زلنا نعول على ذلك فعلا؟ حتى المؤسسات الأكاديمية التي كانت حتى وقت قريب المعقل الوحيد، الذي قد يضمن بعضا من الالتفات لما يحدث فعلا في العالم الجنوبي لم تعد كذلك. ألم تكن هذه المؤسسات الأكاديمية نفسها، هي التي استبعدت أي حضور للأدب والفكر الروسي في مساقات دراسية كاملة بعد الأزمة الروسية الأوكرانية، ألم تكن هذه المؤسسات نفسها التي اتخذت في عديد من المواقف قرارات باستبعاد طلبة فلسطينيين وعرب من برامجها المختلفة بحجة معاداتهم للسامية؟ على من نعول إذن؟ لا يبدو أن هذه المؤسسات التي اشتغلت خلال ثلاثة عقود ماضية بالدراسات ما بعد كولونيالية جادة في تعاطيها مع الإرث الاستعماري الذي خلفته على المعرفة وأي مقاربات تخصنا.
فلنتأمل مقال الكاتب الرائع الذي كنتُ أنتظر قراءته لما يحدث الآن، ناثان جي روبنسون، في محاولته تقريب الصورة لقراء current affairs، يقول ربنسون: دعونا نتخيل أننا نصف الحرب العالمية الثانية كما لو أنها صراع أطلقت فيه أمريكا وبريطانيا وحلفاؤهما حملات قصف وإبادة على كل من هامبورج وبرلين واليابان وقتلوا بذلك آلاف المدنيين ودمروا منازلهم، أمريكا نفسها قتلت ملايين الأشخاص وألقت قنبلتين ذريتين على مدينتين يابانيتين. وسيكون من غير العادل وصف الحرب العالمية الثانية بتجاهل السياقات التي أنتجت هذه الأفعال، ومن غير المنصف عرض أن مذابح المدنيين هذه اُرتكبت بسبب شهوة الدماء الخالصة والتي حدثت بشكل عشوائي. إذ ومن خلال ذلك تُستبعد أسباب الحرب برمتها عن الأنظار. يصف روبنسون استثناء العدوان الذي أدى إلى الحرب بـ«البروباغندا». وبهذه البداية يفتتح ما يُفترض أن يشرح الوضع في غزة بعد السابع من أكتوبر!
ومع ذلك كله نجد أنفسنا في موقف مسؤول عن قول إن ما سيحدث خلال الفترة القادمة لن يكون جحيما علينا وحدنا في الجنوب، بل إنهم أول من سيحترق بهذه النار التي سقوها خلال العدوان القائم على غزة بما سيشعلها بلا عودة، وربما أستدعي هنا موقفا كولونياليا آخر، إنني أظن وآخرون غيري بأن أوروبا تمتلك أدوات تمكنها من قراءة ما يحدث في ضوء «معرفة» ووعي تاريخي وفكري، إنهم يختلفون عنا، هذا الجنون الذي نتلقى به ما يحدث، وهذه الهزيمة التي نجثم تحت ظلالها ليست هي نفسها الموجودة في عالم متنور، درس وعرف واختبر كوارث فادحة على تجاوزاته الظلامية السابقة، لكن ليس هذا ما يحدث، كلنا في العالم اليوم داخل ظلال الكارثة نفسها، إننا في قلب سعار ما سيحرقنا جميعا، وليس لدى الأوربيين أكثر مما هو لدينا. لا شيء يستطيع إنقاذهم من المستقبل الذي يراه قلة منا، مثلما لا يستطيع شيء إنقاذنا الآن.
عندما تحرم ألمانيا المتظاهرين العرب من التعبير عن حدادهم أو غضبهم عما يحدث في غزة الآن، وتعيد مع ذلك مراجعة ملف المهاجرين، على الرغم من أن الدساتير والأنظمة هناك تتعارض أصلا مع هذا المنع للتعبير عن الرأي، حتى أن ألمانيا وجدت نفسها في أكثر من مناسبة مضطرة لمواجهة رغبة «النازيين الجدد» واليمين المتطرف في التعبير عن مواقف متشددة، ووجدت أنها لا يمكن أن تمنعهم من التعبير عن أنفسهم، رغم كل ما حدث، ورغم التاريخ، ورغم أننا وقبل بضع سنوات فحسب، كان من شبه المستحيل أن يتحدث أحد عن النازية والقومية الألمانية بالصفاقة نفسها التي يتحدث بها اليوم منتسبون إلى جماعات معروفة في مشهدهم هناك، فما الذي ينبغي علينا قوله أكثر؟ من أننا ننزلق بلا تأخر إلى نهاية هذا العالم!
إن ما يحدث في غزة واسمحوا لي أن أقول هو استعارة عن الحدود بين الحضارة والبربرية، أما ردة فعل الاحتلال الغاشم إزاء ما حدث في السابع من أكتوبر، إنما هو إذكاء تلك النار التي وقودها في كل مكان من عالمنا المحتقن اليوم، الذي يخلع عنه غطاء «صوابيته السياسية» الكاذبة، ليظهر لنا التقهقر المرعب نحو القومية والفاشية. فلماذا لا يكون لنا حصة نحن العرب والمسلمين، نحن من نسكن في دول «عالم ثالثية» أن نحظى بحقوق الإنسان، أن نتمتع بكل وعود هذا العالم الحديث، وبدلا من أن نكون محرومين فحسب من مكافأة الحداثة والرأسمالية، لا نستبعد من هذا فقط، بل نُقتل وندمر ونباد كما يحدث الآن في غزة. ألا يبدو العالم تافها ويقوده جوقة من الحمقى وهم يتجاوزون أبجدية التعامل المناسب والجذري مع ما يحدث؟ كم عددنا نحن الذين نرى حتفنا وهلاكنا الموشك؟