يمشي مخفورًا بكتاب ليس كأيِّ كتاب: هكذا تكلَّم قاسم حدَّاد في "دخان البراكين" (4 من 4)
(شرَّفني قاسم حدَّاد بتحرير وكتابة مقدمة كتابه الأحدث "دخان البراكين: كل شيء ليس على ما يرام" الذي صدر مؤخرًا عن دار التكوين الدمشقيَّة. بيد أن هذا الكتاب الأحدث في تسلسل أعمال كاتبه لا يعني أنه الكتاب الأكثر جِدَّة في التأليف من الناحية الزمنية، بل العكس هو الصحيح؛ إذ أن تاريخ وظروف كتابته تعود إلى فترة السجن الذي حُكم به على الشاعر في منتصف سبعينيَّات القرن الماضي ضمن خضم البعد التنظيمي النضالي من تجربته الإنسانيَّة والحياتيَّة. وكذلك فإن هذا الأثر لا يتكون من نصوص إبداعية مختلفة التجنيسات -مختومة بملحق توثيقي- فحسب، ولكنه أيضًا يشكل غابة من التأملات في تلك النصوص، ومراجعتها ونقدها الذاتي لها في ما يندر وجوده من حوار في المكتبة العربية. هذه هي الأخيرة من حلقات أربع تحوي مقدمة الكتاب لمن رغب من القرَّاء).
هذا، وفي هذا الكتاب الغامر يرجِّح قاسم "قصيدة التَّجربة" على "قصيدة الموضوع" (ويبيِّن الفرق بينهما من اختباراته ومعرفته). وليس بعيداً عن هذا يُسِرُّ لنا قاسم أنه مرَّت به أوقات مزَّق فيها الأوراق، واعتقد فيها أن الشِّعر قد هجره إلى الأبد (كما حدث خلال الفترة من مارس إلى أكتوبر 1975)، وهذا عذاب "يشبه الموت" كما يقول. سيكون من اللافت هنا أن عودة الشِّعر إليه، بعد أحد تلك الهجرانات، كانت هديَّة للشَّاعر قدَّمها له نجله محمد بمجيئه إلى العالم وأبوه رهين المحبس، فيا لهما من ولادة وعودة للروح في الشِّعر وبه.
ولا ينبغي التغاضي عن أنه في هذا الكتاب وإنسانيَّته (دَع قيمته الأدبيَّة جانبًا للحظة) لا يبخل علينا الشَّاعر الأسير باقتسام الشُّموخ الأخلاقي الغامر، كما في حالة رسالة تلقاها من أحد أصدقائه من خارج السجن. لا أعتقد أن هناك رغيفًا قد خرج لتوِّه من التَّنُّور كما قرأت تلك الرسالة. وفي هذا الدفء الإنساني والرِّفاقي أيضًا نحن محظوظون وفي غاية الامتنان لذاكرة الشاعر التي تحتفظ بمقاطع مما مزَّقه (حرفيًّا وبلاغيًّا)، والشكر موصول لرفاق الزنزانة الذين نسخوا قصائد من تلك الذاكرة التي في هذا الكتاب.
والآن، فيما يخصُّني في الأقل، ثمة حاجة إلى حديث تأجل أكثر مما ينبغي: أعني تجربة قاسم بوصفه مناضلاً ثوريًّا خرج لتوِّه من أتون تجربة سياسيَّة قاسية ويلهج بتلك التجربة؛ فإذا بنا نرتع في الطَّاقة الجديدة التي ألقى مُزْنَها بمجرد تحرُّره من الأصفاد المباشرة (بل وربما أثناء ذلك، أو بسببٍ من تلك القيود تحديداً وبالضبط). ما أعنيه هنا هو أنه بادَرَنا -نحن الذين، عهدئذ، كانت شواربنا في طور الاخضرار- صارمًا بضرورة التمييز بين كل ما هو أيديولوجي/ سياسي/ حزبي وبين كل ما هو إبداعي/ جمالي/ فني. وإذا كان منا من يعتقد، في الألفيَّة الجديدة، أن هذا كلام بدهي ومفروغ منه، فعليه أن يعود بذاكرته إلى أوائل ثمانينيَّات القرن الماضي (خاصة لدينا هنا في الأوساط الوطنيَّة والثقافيَّة في الخليج، وفي الالتباسات المؤسفة التي حدثت) كي يدرك كم كان الغريب غريبًا، وإلى أي مدى كان اليتيم يتيمًا، وكيف صار المنبوذ منبوذًا أكثر من ثديٍ فاسد، وكم كسب "الرَّفيق" من خصوم وأعداء في نفس الخندق المُفتَرض. لقد كانت بصمة قاسم جوهريَّة وتأسيسيَّة في تلك البرهة المفصليَّة والغائمة من تاريخنا السِّياسي والثقافي المعاصر: "ما يبقى يؤسِّسه الشعراء"، كأننا "عِشنا" ذلك في تجربة قاسم، قبل أن "نسمعه" من أشعار فرِدرِش هولدِرلِن. لقد اعتقدت دومًا أن عبور/ تجاوز مراحل التجربة الشعريَّة الثلاث فيما يخص قاسم (الشِّعر العمودي، ثم التفعيلة، ثم قصيدة النثر) إنما يتوازى -ليس من قبيل المصادفة بالضبط- مع رُشده في الصيرورة الثوريَّة ضمن مراحلها الثلاث أيضاً: من يسار حركة القوميين العرب، إلى الحركة الثوريَّة الشعبيَّة، إلى الجبهة الشعبيَّة. ومن هناك صار المُطْلَقُ مجرد صدفة لا بأس بها، فحسب.
وهكذا فثمَّة أمر أعتقد بأهميته وصار لا بد من التطرُّق إليه علنًا. صحيح أن قاسم، ومنذ "بشارته" الأولى، ما انفكَّ يصهر ذكريات، وهواجس، وعناصر تجربته السياسيَّة (والحقيقة أن قاسم كان روحًا وثَّابة أكثر منه دمغة أخرى في قافلة الأسماء الحركيَّة) في بوتقته الوجوديَّة والشعريَّة الأكبر؛ فنحن في الكتابة، وفي ذاكرة المنطقة، نراه أسيرًا سياسيًّا ("عندما كان الحارس ينام/ كنت ألكُزُه"، كما يقول في تصعيد لإحدى تجليَّاته السجنيَّة الأثيرة لديَّ)؛ غير أني قلت له غير مرة (ولا بد أن غيري قد كاشفوه بهذا أيضًا) بأن ذلك لا يغني عن الكتابة عن التجربة السياسيَّة المباشرة بطريقة مباشرة؛ وذلك من حيث أن "الشيطان يكمن في التفاصيل". في هذا الكتاب نقرأ الشاعر السَّجين من دون أن نتعرف إلى الكادر التنظيمي القيادي الحبيس الذي أنتج الشَّعر (ثمَّة إشارات عابرة تَرِدُ مثل الطيف البعيد عن الإصابة بالمرض في السجن، ولكن ذلك مُحاكٌ في نسيج التأمل الشِّعري، ولا يخصُّ التجربة السجنيَّة بحد ذاتها). يعي المرء بالتأكيد أن هناك الكثير من المحاذير في ذلك (ذاتيَّة، وموضوعيَّة، وأخلاقيَّة، وما في المنزلة بين المنازل). ولكن حين يبوح قاسم، في الجلسات الخاصَّة، بهذه الَّلمعة الخجول أو تلك مما حدث في أثناء التجربة السياسيَّة المباشرة، فإن المرء يشعر بضرورة القبض على ما تبقى من زمن وذكريات بالأصابع، والنَّواجذ، والنار؛ خاصة حين يتعلق الأمر بأفراد من جيل "جديد" سيقرأون هذا الكتاب من دون أن يعوا العذابات التي ترابط خلف صفحاته وخنادقه. لعل غيري وأنا لا نبهظ على قاسم بهذا الأمل في كتاب قادم، وعساي لم أتهور أكثر مما ينبغي في كتابة هذه الفقرة.
حسبي، في هذه المقدمة، بضعة تلصُّصات على شكل ومضمون هذا الكتاب، وهي اختلاسات ليس غرضها إفساد متعة وفائدة القراءة؛ إذ لا ينبغي أن يكون الإعطاب بالتَّلخيص من أغراض كتابة المقدمات، بل الوعد بالمتعة والفائدة لزيد أو عمرو من القرَّاء كل على هواه، وأغراضه، وما تشتهيه ليلى والليالي؛ وذلك من حيث أن "كل قارئ هو مشروع ناقد" إذا ما كان قادرًا على أعباء "الفعاليَّة" التي تختلف عن شروط القارئ بوصفه "ناقدًا شعبيًّا" (وعلى صعيد شخصي عليَّ القول إنني أحببت عبارة قاسم الأخيرة هذه حد الثَّمالة).
يقول قاسم في أحاديثه الشخصيَّة وحواراته المقروءة والمبثوثة في الوسائل المرئيَّة إنه لا ينشر كتابًا جديدًا إلا إذا كان مختلفًا عن سابقه (ولاحقه بالتأكيد)، وأخال أن هذا ينطبق بوضوح على المجموعات الشعريَّة التي تتكون من "مشاريع" صار يعكف عليها في السنوات الأخيرة، بما في ذلك الجانب البحثي (وأعني بالعبارة الجانب "الأكاديمي" و"الميداني" مباشرة) الذي تتطلبه، والذي يستغرق منه سنوات قبل وأثناء الإنجاز مثل "أيها الفحم يا سيدي: دفاتر فينسنت فان جوخ" (2015) ويوميَّات "بيت هاينريش بول" (2016)، وذلك أكثر من المجموعات الشعريَّة التي تتكون من ثيمات متعددة وبنى جماليَّة وتعبيريَّة مختلفة. غير أننا نجد في هذا الكتاب أن قاسم في مونولوجه النقدي يطمح ليس إلى تمايز المراحل، بل اختلاف بين القصائد.
ثم ماذا عن هذا الكتاب؟!
يقول قاسم في تلخيص فحواه (ربما من حيث لا يقصد): "إذا كنتُ قد وقعتُ في قصورٍ من حيث توضيح ما أريد، فذلك لأنني أبدو عاجزًا عن التعبير. وحين يكون قد فاتني شيءٌ، فذلك يعني أنني أصغرُ من مساحة الشعر. وعندما أكون قد سهوتُ عن الإشارة إلى نقطة من نقاط الضَّعف في قصيدتي، فإنما يدل ذلك على عدم أهليتي للقيام بدور الناقد". حسن جدًا، ذلك قد يعني بعضنا وقد لا يمس بعضنا الآخر.
وثمة استطراد أخير؛ فالحقيقة أنه من حسن المصادفة صدور خمسين حلقة فيديو بعنوان "خمسون حلقة عن خمسين كتابًا"، متوفرة كلها على قناة "اليوتيوب" وهي قصيرة، ومكثَّفة، وعفويَّة، وسلسة في حديثها وتدفقها، وذلك بمناسبة صدور خمسين كتابًا وانقضاء أكثر من أكثر من خمسين سنة عاناها قاسم في الاختلاط بالشِّعر، والنَّثر، ومعاناة الضوء بين الظُّلمة والجُسور. لا تسهم تلك الحلقات، التي صدرت قبل شهور قليلة فقط، بإضاءة جوانب معينَّة، شخصيَّة وعامَّة، يتم التطرق لبعضها والربط بينها لأول مرة من تجربته فحسب، ولكنها تعين السائر في هذا الكتاب لفهم أعمق لسطوره، وما بينها.
حسنٌ جدّا: هذا "دخان البراكين"، أما الحِمَم فهي من شأن قاسم وحده، وليس من القمين بنا أن نطالبه بأية تفسيرات (أكثر مما فعل في هذا الكتاب) عن أي شيء يخص النيران، وذلك من حيث أنه "في ركعة النيران/لا أحد" كما كان قد أخبرنا منذ مدة ليست قصيرة.