يا أيها الذي أضاع المفتاح

25 ديسمبر 2022
أنساغ
25 ديسمبر 2022

(1)

استهلالٌ اقتباسيٌّ وضروريٌّ جداً لهذه الحلقة من "أنساغ" ضمن جهد جهيد في إقامة المتاريس صدَّاً باسلاً بائساً لهذه الليلاء النجلاء:

"ننحني خارجاً

نحو مكان غامض آخر:

ما زال العالم مكاناً نموت فيه" (ريلكه، "ضوضاء قلب"، من النصوص التي اختار أن يكتبها بالفرنسيَّة مباشرة).

(2)

في العربيَّة التي تحتوي على نظام تصريف، وضم أفعال محكَم ومتقدم للغاية (conjugation) نستطيع القول إن زيداً من الناس قد "انتحرَ" في وحدة الفعل، والاسم، والفاعل، والمفعول، من دون أن نورِّط أنفسنا في ارتكاب فعل قيمة أخلاقي حول ما حدث. لكن الإنجليزيَّة لا تتوافر على تلك الرشاقة العربيَّة الأخلاقيَّة، وذلك من ناحية أنها لغة ميكانيكيَّة وباردة في قاعدتها الأثيرة (فاعل، فعل، مفعول [subject, verb, object]). من هنا فأنت لا تستطيع القول في لسان أولئك القوم إن زيداً قد "انتحرَ"؛ بل يتعين عليك القول إن "زيداً قد اقترف/ أقدم على/ ارتكب الانتحار" (“X committed suicide”)، وهو نفس التركيب اللغوي الإجباري في قولك بالإنجليزيَّة "إن زيداً قد ارتكب جريمة قتل" (“X committed a murder”). وبهذا تجبر اللغة القائل على اتخاذ موقف أخلاقي مسبق حول ما حدث.

لكن ليست هذه مقارنة تفضيليَّة بين لغة وأخرى، (فهناك، مثلاً، أشياء تقال بالإنجليزيَّة بأفضل بكثير مما يقدر عليه لسان الضاد).

المراد هو التأمل في مقولة نيتشه إن التاريخ نتاج لغوي.

(3)

ثمَّة متلازمة سيئة للغاية تحدث للمرء في هذه المرحلة من العمر: الكف عن الرغبة في تغيير العالم لفرط الضجر من كل ما يحدث في العالم، وكثرة الخوف بسبب كل ما يمكن أن يحدث، مذعناً -- المرء -- في ذلك إلى إخفاق مشروع تشي غيفارا الرامي إلى إيجاد "الإنسان الثوري الجديد" عوضاً عن الركون إلى وعود "النظام السياسي الثوري الجديد"، والاهتمام بالكتابة أكثر من الشعور بالمسؤولية الوجوديَّة نحو القراءة (أقصد: تقريباً السَّأم المُسبق من أي معرفة جديدة)، والمشاهدة المفرطة للأفلام عبر المنصَّات التي أصبحت متاحة بصورة لا بأس بها، لكن من دون وجود أي وازع لنقد تلك الأفلام، والانتظار المشرئب والتَّواق لنهاية الأرض في كل ثانية تتثاءب فيها الساعة، والاستمتاع الشَّبقي (كمن انتابه السهو عن أن يرى الحياة قبل ذلك) برؤية المراهقات وهنَّ يكتشفن/ يتباهين بأنوثتهن في "المولات": أشياء من قبيل الاطمئنان إلى وضعيَّة "الشيلة" أو العباءة للمرة الألف في الثانية الواحدة، وحماقات مماثلة، لذيذة ومفضوحة حدَّ العذوبة.

هذه المرحلة من العمر ليست أفضل مراحل الحياة على الإطلاق، والمرء ليس في وسعه أن يكون عشرينيَّاً مرة أخرى (وتقريباً لا يريد ذلك أصلاً).

(4)

ثمَّة بون شاسع بين "الكتابة الجيَّدة" (على أي منوال مهما كان) و"الكتابة الفريدة" (في مناولاتها الجريئة خارج البوصلة). الكتابة الأولى من النوع المقبول في التماهي الاحترافي مع الغالب؛ فالآن، على سبيل المثال، صارت قصيدة النثر هي لغة التعاطي مع التعبير الذي صار أمراً واقعاً بعد نضالات السنين. الثانية -- أي "الكتابة الفريدة" -- هي تجاوز مصقولات ولوامع المهنيَّة: إنهاء معاقرة الهواء بالإزميل، وتسريب الماء إلى الأجداث والشموس، وتهريب المستحيل من/إلى السماء.

وفي أية حال فإنه ليس من العدالة بمكان أن يطلب المرء من جميع الكتُّاب أن يكونوا من الصنف "الفريد". "الجودة" مطلوبة إلى أبعد الحدود؛ فهي مرام الحياة (وربما فرضها من الأساس)، وهي سبب استمرار صدور الصحف، وإنشاء السجون، وتحديث مناهج التعليم، وصيانة القاعات والمايكرفونات، وهلم جرا.

(5)

في تلك البلاد المجيدة التي ترفرف عليها أعلام الرب الحسنى وكافة رايات الأنبياء، والشهداء، والصديقين، والصالحين، والأمجاد، والأفضال، والفضائل عليهم التحلي ببعض الأخلاق كي لا يهلكوا وقد خسروا فضيلة الموت على الأقل، أليس كذلك؟

(6)

كل صباح يبدأ برائحة الأم، وكل مساء ينتهي برائحة الوالدة. وفي كل صباح وكل مساء ليس هناك حليب، أو حرج، أو عتاب، أو خبز.

(7)

الحب هو مَلَكة وموهبة التظاهر بالسذاجة ("التظاهر" كلمة ينبغي إعادة النظر فيها دوماً).

الحب هو موهبة اقتناص الحكمة ("الحكمة" هي أول مفردة ينبغي حذفها من المعاجم والقواميس).

ترى، أين يوجد الحب بعد ذلك؟

(8)

لا جدوى، لا جدوى ولا خير يُنال في الكتابة؛ فهي، من ناحية، الاعتراف بعدم إمكانيتك في الانخراط في حياة البشر، ومن ناحية أخرى فإن الكتابة عديمة الجدوى؛ لأن الناس لا يريدون الانخراط في نصِّك من الأساس.

(9)

أيها المُسَدَّس الذي في كل صباح:

أين أنت في هذا الصباح؟

(10)

ساقاكِ عتمة البحر.

(11)

حين دخل الملك إلى غرفته وجدها فارغة، فبكى.

ويقال إن ذلك كان من أسباب زوال المملكة.

(12)

أي حديث بين الناس عن الحب ينبغي ألا يتدارس التالي في التفكُّرات التي تعقبه والتعليقات التي تليه (ضمن أشياء أخرى): العصر الحجري، انقراض الديناصورات، خروج الإنسان من الغابة، تناسل المؤامرات في المخطوطات، كتابات هيغل وماركس، دفاع الوطنيين عن بلادهم، الثورة الفرنسيَّة أو البلشفيَّة، موسيقى موتزارت، بناء الإهرامات، إلخ.

يا الله، الحب شيء صغير، صغير جداً، صغير مثل بقايا فراشة، ولا يحتمل كل تلك الأشياء الكبيرة.

(13)

في الكثير من الحالات (إن لم يكن معظمها، في الحقيقة) يمكن تعريف "الحياد"، و"الموضوعيَّة"، و"العقلانيَّة"، و"الرَّزانة"، و"الاتِّزان"، و"الحكمة"، و"ضبط النفس"، و"كبح جماح التَّهوُّر"، و"كظم الغيظ"، كالتالي: أن تكون بلا قلب، بلا روح، بلا عاطفة، بلا إنسانيَّة، بلا ضمير، وبلا أخلاق.

أظن أنه لا بأس من ترديد هذه البداهة من حين لآخر، خاصَّة بالنسبة للنَّفر الذين لا يعتقدون أن الإنسان قد خرج من الغابة لغاية الآن.

14))

يا أيها الذي أضاع المفتاح ويبحث عنه: ليتك تعلم ألا قفل للطريق، وليتك تدرك أن كل الطرق والأقفال تفضي إلى مفتاحك.