وما أدراك ما «التنمُر»
تذهب معاجم اللغة العربية إلى أن مصطلح «التنمُر» يعني «الإساءة والاعتداء والتقزيم» وهو شكل من أشكال الأذى الموَجه بغرض إلحاق الضرر النفسي وبث الخوف فَـ«تَنَمَّرَ» أي «تَشَبَّهَ بِالنَّمِرِ وَحَاوَلَ أنْ يُقَلِّدَ شَرَاسَتَهُ».
وقد يرافق هذا الفعل «البغيض» بعض الاستعراض أو التهجُّم الجسدي أو المعنوي أو نشر الشائعات من قبل فرد أو مجموعة نحو فرد أو مجموعة أخرى.
ويتخذ التنمر أشكالا عديدة سواء أكانت بين الكبار أو الأطفال الذين هم غالبًا ما يكونون مهيئين أكثر للوقوع تحت وطأة هذا التصرف نظرًا لعدم قدرتهم على رد الإساءة في الكثير من الأحيان كالرد على فعل «الضرب الجسدي» أو «الشتم» اللفظي من قِبل عاملة منزل أو مربية على سبيل المثال.
سأتحدث في مقال اليوم عن ظاهرة «التنمر» التي تُمارس «خِفية» من قِبل أشخاص يملكون سلطة القرار بهدف فرض السيطرة وزعزعة الثقة بالنفس وهزّ القناعات عبر «الاستقواء» والترهيب ليس لأن أنواع التنمر الأُخرى أقل خطرًا وفداحة في إيجاد بيئة عمل طاردة مشحونة بالتوتر وصناعة أشخاصٍ متبلدي الفكر غير واثقين بقدراتهم ومهاراتهم إنما لأنها استحالت إلى «عصًا غليظة» بيد المسؤول أو صاحب القرار يفرض من خلالها هيمنته وعُقده وقراراته التي قد تكون خاطئة وتنصيب أشخاص يفتقدون الكثير من المؤهلات الذهنية والعملية ليتسيدوا المشهد وهم غير جديرين بالقيادة.
إن الخوض في موضوع شائك له وجوه متعددة وأسباب كثيرة كالتنمر لا تتسع له مساحة محدودة كهذه لكنني سآخذ بقاعدة أنه «ما لا يُدرك جُله لا يُترك كله» وسأركز على وجهين قبيحين بالغي القُبح وهما التنمُر الذي يمارسه المسؤول على موظفيه بأي مؤسسة عامة أو خاصة وذلك الذي يأتيه الأكاديمي في جامعته أو كليته أو معهده مُدركًا مستمتعًا.
يتنمر المسؤول أينما كان موقعه وكيفما كانت صفته عندما يبني جدارًا عاليًا بينه وبين موظفيه فلا يكاد يُرى أو يُسمع صوته إلا لأمرِ جلل .. عندما يوصد بابه في وجه من أراد أن يتنفس لديه أو يستجير به من شر مسؤوله وصلفه وتعسفه وعدم موضوعيته .. عندما يعمل بمقولة فرعون «مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ».
يتنمر المسؤول إذا ذكر موظفه مُعايرًا أنه وليُ نعمته وأن فضل تعيينه يعود إليه.. إذا استغل احتياجه للعمل بامتهان كرامته .. عندما يقتصر فهمه للمسؤولية على استغلال الصلاحيات والتهديد بالإزاحة والاستبعاد والإطاحة والحرمان من الحقوق استنادًا إلى قاعدة «من ليس معي فهو ضدي».
يتجلى التنمرُ في أقبح صوره حينما يفرض رب العمل على الموظفين الشخص السيئ السُمعة ومن هو أقل كفاءة وجدارة وقدوة وقدرة على الإدارة .. من يُحابي هذا ويقربُ تلك، ويستبعد كل من لا يقدم له طقوس الولاء والطاعة ولا يجيد فنون المُداهنة والنفاق.
نعم يمارس المسؤول فِعل التنمُر بجدارة إذا أمسى هدف تحقيق الاستقرار النفسي والوظيفي لمن يعملون تحت إدارته هو آخر اهتماماته .. عندما لا يضع صيانة الوظيفة التي اؤتمن عليها من قِبل ربه سبحانه وتعالى ومسؤوله الأعلى على رأس أولوياته.
في الجامعات والكليات والمعاهد أيضًا تظهر صور مقيتة أُخرى من التنمر يُمارسها المُدرس على الطالب «الضعيف» الذي يجد نفسه يرزح تحتها بلا حول ولا قوة تجنبا للوقوع فيما هو أسوأ بخروجه من المؤسسة التعليمية فاشلا أو مطرودا أو مؤجِلا لفصول دراسية وبالتالي السقوط في إشكالات تتعلق بتأخر موعد التخرج وأُخرى نفسية لا حصر لها.
التمييز الفجّ بين الجنسين في منح العلامات وتقييم الأعمال ودخول معيار «الهوى» و«المزاج» و«الجمال» و«المكانة الاجتماعية» صور قبيحة من صور التنمر.
استغلال عدم وعي الطالب بالقوانين والأنظمة التي تحميه من أي ظلم قد يقع عليه من مدرسِهِ صورة سوداء من صور التنمر .. خوف الطالب من نتائج تقديمه أي شكوى أو تظلم لمرشده الأكاديمي تنمر صريح لا جدال فيه.
تحدي المُدرسين لبعضهم ومن هو قادر على وضع الامتحانات الأصعب والأكثر تعقيدا هو تنمر سافر. استعداء المدرس للطالب «الغلبان» فقط لمخالفته إياه الرأي وطرح رؤى شخصية مقتنع بها تنمر لا مبرر له.
ربما لا يهتم من يقف موقف القوي في صرح علمي له قداسته لا محل فيه لحديث عن صراع شخصي بين مُدرس يملك القوة وطالب يفتقدها لأنه «لا إنساني» وغير منطقي .. ولا يعنيه أنه يترتب على ذلك ظلم الطالب وانهيار معدله التراكمي الذي غالبًا ما يصعُب رفعه بسبب نظام الساعات المعتمدة، لكنه يجب أن يضع أي المُدرس في الحُسبان أنه سيسفر عن ذلك الصراع «غير المتكافئ» تقديم إنسان مأزوم نفسيا وفاشل عمليا للمجتمع ستتعذر مستقبلًا كل محاولات إصلاحه وإعادته للجادة لأنه استنزف في تلك المعركة كل طاقاته وقواه الذهنية والعصبية.
آخر نقطة ..
«بعد فترة ستبدأُ بتقبل هزائمك برأس مرفوع وليس بحزن طفل، وتزرع حديقتك بدل انتظار أحدهم ليهديك وردة .. وتتعلم وتتعلم .. من كل وداع تتعلم».
بورخيس
عمر العبري كاتب عماني