وحياة قلبي وأفراحه
يكفي أن تتردد هذه الأغنية لعبدالحليم حافظ في الإذاعة، متبوعة بأغنية (مـ الثانوية عالكلية) لليلى نظمي، حتى تعلم كل عُمان أنه يجري الآن إذاعة أسماء الناجحين. فهي الوسيلة الأسبق، بينما ستنشر الجريدة غدا كل الأسماء، ولن تصل إلى كل الولايات في اليوم نفسه، وسيحرص الناجحون، وخاصة الأوائل الذين وضعتهم على لوحة الشرف، على الاحتفاظ بنسخة من الجريدة أو بتسجيل كاسيت رُصد من الإذاعة.. فيجتاح جو من البهجة البيوت والسيارات والشوارع وكل مكان يوجد فيه جهاز راديو، وكذلك القلق والترقب لدى البعض.. فهو حدث موسمي يتم مرة في السنة وينتظره المجتمع، لأنه لا يخص الطلبة فقط وإن كانوا هم المستهدفين، ولكن الأسرة كلها تتفاعل وتريد أن تطمئن على ابنها أو ابنتها، بل والعائلة كاملة، والجيران الذين سيفرحون مع أبناء جيرانهم، وربما تفاخر بعضهم على بعض، وينشط شراء وتبادل الهدايا. حتى المدرسون (كان معظمهم من الوافدين) يهمهم أن يطمئنوا على أبنائهم الطلبة، وقد يستغرب أحدهم من نجاح ذلك الطالب البليد فيتساءل (إزاي الواد الخايب المشاغب ده نجح؟! أكيد شغال ع البراشيم).. فاليوم يكرم الطالب المجتهد والمميز، أما الضعيف والمهمل فسوف يواجه ما يحتمل وما لا يحتمل، ليس من أسرته فقط، وإنما من المجتمع، الذي قد يقسو عليه كثيرا أو يلقنه درسا ثقيلا. وتخبو الفرحة قليلا عندما تذاع أسماء المكملين الحاصلين على الدور الثاني. كانت هذه واحدة من الخدمات الجليلة والمهمة التي تقدمها الإذاعة للمجتمع.
وأحسب أن كل من مر بهذه المرحلة لا ينسى ذلك اليوم، بل وحتى أي مذيع قرأ اسمه، كما حدث معي في حوالي العام 1980م عندما أنهيت الإعدادية العامة (هكذا كانت تسمى) أي الصف التاسع، وكنت أقضي إجازة الصيف في البلد، عندما تحلقنا حول الراديو، فأسمع المذيع يقرأ اسمي، وتزيد فرحتي أن الذي قرأ اسمي هو ذلك المذيع الذي أرى فيه النموذج الذي أتمنى أن أصبح مثله، الأستاذ إبراهيم اليحمدي، غير متوقع أنني في ظرف سنتين سأصبح أحد زملائه وأصدقائه إلى اليوم.. وسأجلس على كرسي الاستوديو نفسه لأقرأ أسماء الناجحين في المواسم التالية، عندما أتعين بشهادة الأول الثانوي، وأكمل الثاني ثانوي كطالب وموظف، أما عندما وصلت للثالث الثانوي فقد اقترح علي مدير المعهد في خطوة غريبة أن أنتقل للدراسات الحرة أو المنزلية معللا بأنني لن أقدر على التوفيق بين الدراسة والوظيفة (ربما كنت مشاكسا قليلا).
وفي زحام المرحلة التي كنت أجتهد فيها لأصبح إعلاميا ناجحا نسيت أنني طالب، وانشغلت بالعمل أكثر، حتى بدأ الحديث عن قرب اختبارات الثانوية العامة، وأن المتبقي أقل من ثلاثة أسابيع. صحوت من غفلتي، وطلبت من صديقي وزميلي في المعهد سالم العامري الذي أصبح زميلي في دائرة الأخبار، ويسكن في ملحق لقريبه بمدينة الإعلام، أن يعطيني نسخة من مفتاح غرفته لأعكف فيها على المذاكرة بعد فترات الدوام.. أخذت أقرأ الكتب وأستوعب شيئا وأجهل أشياء، لدرجة أنني صدمت من حجم كتاب الجغرافيا فتركته جانبا مستسلما أنه سيكون أحد مواد الدور الثاني، ولم أتصفحه إلا ليلة وصبيحة الامتحان. أول مرة أشعر برعب من ورقة الاختبار لدرجة العرق حتى على باطن كفي. أحتاج إلى (مساعدة صديق) وصديقي الذي طلبت منه أن يرفع ورقته كلما استطاع لم أتمكن سوى من التقاط جدول كتب عليه المصفوفة، فرسمت مثله وعبأته بطريقة حتما سيكشفها المصحح، وكتبت كل ما ثبت في ذهني من معلومات جغرافية عامة من الكتاب.
كانت النتائج تصل لإدارة الإذاعة بشكل مفاجئ، وتحاط بسرية تامة ولو لبضع ساعات لدى بعض المسؤولين ريثما يهيئ الظرف لبداية بثها، ويعمل قسم التنسيق على ضبط الخارطة البرامجية لذلك اليوم، فكل المواد ستتوقف أو ترحّل، عدا بعض الثوابت التي لا تقبل الإلغاء، فقد يلغى موجز أخبار مثلا، ولكن لا مساس بالنشرة ووقتها، وإذا رفع الأذان فلا داعي للابتهال أو القرآن الذي يسبقه أو يليه وهكذا... يكفي أن يبدأ أول مذيع مناوب تقديم ديباجة يهنئ فيها الطلاب والطالبات وأولياء الأمور بالنجاح، وقراءة أسماء الأوائل متبوعة بأسماء الناجحين والمدارس ومناطقها، حتى يتوافد باقي المذيعين إلى الإذاعة للمشاركة رغم أنه لم تكن هناك هواتف نقالة، فاليوم ذروة الاستماع للإذاعة وفرصة للمذيعين لتسجيل الحضور في يوم مميز كهذا، وقد يختار بعضهم مدارس أو ولايات بعينها تعني لهم شيئا شخصيا، وقد تمتد القراءة إلى وقت متأخر من الليل حيث ختام الإرسال، ففي كل عام يزيد عدد الطلبة بشكل واضح، حتى وصلت الأعداد إلى استحالة قراءتها كلها بالنسبة للإعدادية العامة، وكانت الهواتف الأرضية قد بدأت تنتشر أكثر، كما أن الجريدة أصبح وصولها أسرع، فتم إلغاء قراءة نتائج الإعدادية العامة، وبقيت الثانوية العامة سنوات عديدة، حتى ألغيت لاحقا للأسباب نفسها «.. هواتف الإذاعة في الاستوديو والمكاتب لا تسكت في هذا اليوم، فالمكالمات من كل عُمان، في محاولة من البعض لاستباق معرفة نتائجهم، وإذا تعاونت مع أحدهم ومررت له اسم ابنه أو ابنته سيطمع أيضا في معرفة بعض أقاربه أو جيرانه، فكان هذا التسريب يسعدنا ونشعر أنه من واجباتنا بعيدا عن الهواء، ولكنه أحيانا يشكل لنا ضغطا حقيقيا. وبعض المواطنين من الولايات قد يتبرعون ويأتون إلى مسقط في وقت متأخر من الليل للحصول على بضعة أعداد من الجريدة يسابقون بها الوقت لتبشير ذويهم.
في ذلك العام (1985/م) بعد أن أنهيت الاختبارات، لم أكترث كثيرا بانتظار النتائج ليقيني أن الدور الثاني لن يخطئني وسأدفع ثمنه طوال إجازة الصيف.. دخل رمضان، وقبل أذان المغرب بخمس دقائق ومائدة الفطور عامرة، اتصل بي سالم الذي عايش ظرفي خلال الأسابيع الماضية وكان في الدوام بدائرة الأخبار ليقول لي: (مبروك محمد نجحت، النتائج وصلت) لأرد عليه: دع عنك المزاح الثقيل واتركني لأفطر، مما اضطره أن يحلف لي. فلم يكن مني إلا أن أخرج من البيت مسرعا إلى الإذاعة فأصل وأجد كل الموظفين في المطعم على الفطور.. ذهبت مباشرة للأستاذ الزميل حمدان الحميدي الذي كان يشغل منصب رئيس قسم تخطيط البرامج وقد أغلق على القوائم داخل مكتبه حتى يحين البدء في إعلان الأسماء، فتارة أستجديه وتارة أسحبه من يده دون أن يكمل فطوره، لنتوجه إلى مكتبه وأرى اسمي بعيني في قائمة الناجحين، وإن كان بنسبة غير مشرفة، ولكن يكفي أنني ناجح، ويكفي أنني سأرتفع درجتين ماليتين، من الدرجة سادسة/ثانية إلى رابعة/ثانية، أي أن راتبي سيرتفع من 198 ريالًا إلى أكثر من 300 ريال... والرائع في هذا المساء الرمضاني الذي أشارك فيه الزملاء قراءة أسماء الناجحين أن تقع في يدي- صدفة أو بتخطيط- المجموعة الخاصة بالمعهد الإسلامي الثانوي بالوطية، فأقرأ أسماء زملائي، حتى أصل إلى قراءة اسمي بنفسي، لدرجة أنني قرأته بشيء من الارتباك أو التقطع (محمد بن علي... بن صالح.. المرجبي).