وحوي يا وحوي.. أهلا رمضان

ما الذي أريد أن أنجزه في شهر رمضان الفضيل؟

أول متابعة سريعة لي كانت أشبه بمسح بانورامي على القنوات ووسائل التواصل الافتراضي عما يُمكن أن يدور حول عودة نشاط الحياة مرة ثانية وعودتنا مع ذلك النشاط إلى رمضان بعد انقطاع استغرق سنتين بسبب كورونا. وتلعب وسائط التواصل الافتراضي دورا مضافا إلى تنبيه الناس بالبرامج والمسلسلات والأدعية والخدمات الإيمانية التي من الممكن أن ينتبه لها المرء لتكون من ضمن إعداد جدوله الرمضاني.

ولا تكتفي تلك الوسائل بالتذكير إنما تضاعف أجرها فيضيفونك إلى مجموعات خاصة أو برودكاست دون الاستئذان منك، ويتصدون لمهمة توعيتك وتثقيفك وهدايتك، فيبدؤون بتوجيه جملة من التهاني والأدعية والتبريكات بقدوم الشهر الفضيل، ثم إلى تنبيهك بالحلال والحرام، فتتحول الوسائط إلى تِكية أو زاوية لتبادل الفتاوى إلى جانب أنواع الطبخات الشهية، مِمّا يجعل المرء في حيرة من تردي الحال الذي وصلنا إليه؛ فتارة هناك من يتخصص في إرسال الأحاديث التي يراها صحيحة، وآخر يَرسل عدة مواقع لقراء القرآن الكريم كصدقة على الأموات، وآخر يخصص لك مواقع على اليوتيوب ينصحك بمتابعتها إلى غير ذلك من سرد أخبار الأولين وقصص الغابرين، ونصائح إلى ترك المُعاندين، وتجنب نواهي المنكرات في الدين، وأظرف ما وصلني هي فتوى لأحدهم ترى أن التمر المطبوخ مع السنوت والسمن على شكل حلقات، هي بدعة من البدع، فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!

"وحوي يا وحوي إيُّوحه..

رُوحت يا شعبان أيُّوحه..

وحوينا الدار جيت يا رمضان.."

لم تستوقفنِي كلمات هذه الأغنية إلا الآن. لا أبحث عن تفسير السبب. وحسب محرّك البحث جوجل فإن كلمة "وحوي" في المصرية الفرعونية تعني "فرحي"، أما كلمة "إيُّوحة" فمعناها "قمرة"، وأن أصلها "أيّاح"؛ ويعني القمر، فيكون المعنى العام للأغنية "افرحي يا أيُّوحة، وهي أم أحمس الذي طرد الهكسوس من مصر فلما طردهم خرج الناس يهنئون أمه بذلك". وغنت الفنانة هيام يونس في طفولتها هذه الأغنية بالأبيض والأسود بعد إدخال بعض التعديلات والحوارات على الأغنية، وأعتقد أنها من بين أغنيات الذكريات الجميلة التي ترتبط برمضان أيام زمان. المتأمل في كلمات الأغنية يدرك قيمة الفن في الحفاظ على طقوس الشعوب وتقاليدهم، الأغنية تضج بالحيوية مؤكدة على قيم الشهر الفضيل والصحة والعمل والوصال.

أظنني قد نسيت معنى اللمة في رمضان، لأسباب متعددة تخصّ إقامتي في مسقط، وانشغالي بالوَحدة والقراءة والإنجاز، لكن بعدما أعلنوا أن الحياة عادت، تذكرت واقع أسلوب الحياة السابقة التي فرضها التعامل مع كوفيد-19 ما جعل من الوجود المحدود في حيز غرف المنزل يحظى بالتأمل واستيعاب أن الحياة قد تغيرت وأنها إن عادت فلن تعود إلى ما كانت عليه في السابق. نعم عاد رمضان شهر الصيام الفضيل ولا يشعر المرء بعودته إلا من خلال تضافر العديد من الفعاليات، كصلاة التراويح، ولمة العائلة على مائدة الإفطار والسحور، والنقاشات التي تدور على المائدة حول كل شيء أو أي شيء يخطر في البال، كما تذكرت فكرة استئناف الزيارات العائلية، وتبادل بعض الوجبات الخفيفة بين الجيران، ومسلسلات وأغاني رمضان الجميلة: "أهو جِه يا ولاد، سبحة رمضان للثلاثي المرح، رمضان جانا لمحمد عبد المطلب، وحوي يا وحوي لأحمد عبد القادر، مرحب شهر الصوم لعبد العزيز محمود، ورمضان كريم لحكيم."

والمُدهش في اعتقاد الناس أن الحياة قد عادت إلى الاستقرار يخالفه الإعلانات التي توجهها بعض المؤسسات عن مزاولة أعمالها وأنشطتها مشمولة بأخذ الاحترازات اللازمة من الوباء، إلى جانب استمرار العمل بقرارات اللجنة العليا للتعامل مع فيروس كوفيد-19 في المجمعات والمولات. فكأن الحياة قد عادت في رمضان، لكنها في الحقيقة لم تعد عودة كاملة. ويقابل هذا اعتقاد آخر أن رمضان شهر تكثيف الدعوات للخلاص من الأوبئة والدفع بالأذى المادي والمعنوي عن الكرة الأرضية وعن النفس البشرية، شريطة كما يرون أن يقترن بالإخلاص ودرء الفساد، ويعني ذلك أيضا اكتشاف حلاوة العودة إلى الله، واستجداء رحمته وعطفه وكرمه، وعند هذه النقطة لا تتورع بعض مواقع دور النشر الإلكترونية أو المكتبات أن ترسل إلى بريدك بعناوين كتب ترشحها لك في رمضان تدور حول اكتشاف أسرار السماء، وإجابة القرآن لأسئلة الوجود القلقة، وكتب عن قصص التائبين وانتقالهم من عتبة الذنوب إلى عتبات الاستغفار..

الناظر إلى السنوات الثلاث التي بدأت مع كوفيد-19 سيرى مقدار ما يعني له عودة الطقس الاجتماعي في رمضان، والشعور به عميقا وإن كان لم يعد. فالمرء قد يتذكر الأحبة الذين رحلوا وغادرونا بلا رجوع، كما سيتذكر الوجع والفقد، والمواقف الصعبة التي كاد فيها أن يخسر أحبابه سواء بالمرض أو بأسباب أخرى. كما لا يمكن للمرء في تأمله ذلك أن ينسى أعداد الكتب التي قرأها، والدراسات التي خطط لها، والمقالات التي كتبها، والملاحظات التي دونها، واللحظات السردية أو المسرحية أو الفنية التي تأملها، وكيف دفعه موقف عاطفي في رواية إلى مراجعة نفسه ومشاعره تجاه ذلك الموقف، وكيف كان لعبارة قالها (جوزيه ساراماغو) عن التفاؤل تقول: "التفاؤل شكل من أشكال الغباء، أن يتفاءل المرء في أوقات كهذه، يَنمُ إما عن انعدام إحساس أو عن بلاهة فظيعة"، أن تدفعه لتأمل عبارات الأمل كلها التي ظَّل يوزعها على الناس في جميع جهات العالم، دون كلل أو ملل، وربما في قرارة نفسه يعلم أن الأمل أصبح تسلية للفقراء، وأن تربيته بتعبير الشاعر محمود درويش: "نفعل ما يفعل العاطلون عن العمل، نربي الأمل"، هي شكل من أشكال الانسحاب أو التراجع أو إعلان الخروج من متاهة هذا العالم الهشّ.

سأحتفي بعودة طقس الحياة في رمضان على طريقتي؛ سأواصل ما قرأت بالبحث عن معاني الكلمات في معجم لسان العرب المحيط للعلاّمة ابن منظور، ورمضان كريم عليكم.