"وأنت تزمع الرحيل إلى إيثاكا"
(1)
على الفِراش امرأة نصف مستيقظة مثل الشراشف النظيفة والقديمة، الشراشف البيضاء التي صارت سماويَّة، والشراشف البيضاء الخضراء التي أصبحت بلون تحياتنا السادرة في قرية لم يبقَ منها شيء لصالح طريق بحري أبعد البحر عنَّا، والشراشف البيضاء التي غابت عنها الألوان لفرط الغسيل والدعك في قريتنا ومآقينا، والندى، والخبز في أول الصباح، كلحظةِ وارِدِ السماء في التفاحة، في الحكمة مصباحاً خافتاً، في لطيفة ومحفوظة الميِّتتين، في لطيفة ومحفوظة عند البوَّابات، في طبول الأعراس في مجز الصغرى، شبه نائمة مثل حبَّة عِنَبٍ حامضة غُبَّ الجبل الأخضر حين استقتلَ الرجال وقد ماتوا، مخمورة إلى حدٍّ ما في جِرار الحانة التي غادرناها لتوِّنا، خارج الدنيا، خارج إمكانات أدوات التشبيه في اللغات.
لا يجوز للكلمات أن ترشدها إلى الليل أو إلى النهار؛ لا يصحُّ لأي شيء أن يأخذها إلى النسيان، أو إلى الفكرة.
ولا يجوز سوى أن تكتب هذا.
(2)
"ينفرد الشاعر زيد بالاشتغال العميق على مسألة الهوية وتجلياتها المختلفة في عصر التشظي، والتفتُّت، والانكسار، وما بعد الحداثة، وقضايا التاريخ في الحاضر، والماضي، والمستقبل، وأسئلة الثقافة الإنسانيَّة الكلاسيكية والمعاصرة، وموضوعات الأنا والآخر، والذات والموضوع، وإشكالات الأبستميولجيا والأنطولوجيا، والميتافيزيقيا، وهو بارع في استحضاره للمرحلتين الكولونياليَّة وما بعد الكولونياليَّة، وتتجلى ثقافته العميقة في استحضار رموز الميثولوجيا الإغريقيَّة والإفريقيَّة، والإسكندنافيَّة، كما أنه مشغول حتى النخاع بهموم الأمة العربية ونضالات شعوبها إنْ قبل "الربيع العربي" أو بعده، والتحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية، وقضية التضامن بين الشعوب المُضطَهدة في العالم الثالث والرابع، و..."
أنا آسف جداً، لا قدرة لي على قراءة هذا الشاعر الكبير؛ فهو أثقلُ مني بالكثير، وقد أثقلَ عليَّ كثيراً.
أود الاستنجاد بشاعر صغير مثلي يأخذني فوراً إلى أقرب مقهى أو حانة حيث يلهو عنَّا الصباح حين نقدم له قهوته.
"أنا بالكاد لديَّ شيء مشترَك مع نفسي، وعليَّ أن أقف بهدوء شديد في زاوية، مكتفياً بكوني أستطيع التنفس" (كافكا).
(3)
أعظم المبدعين على مدار تاريخ الخلق لم يستمعوا إلى النقَّاد (يوم ولدت الأسطورة كان الكذب، متماهياً، هو الناقد الوحيد)، وإنما وَزَنَ الفنَّانون النقَّادَ، ووازنوهم، وسمعوهم دوماً، ولكن من دون أن يستمعوا إليهم في كل مرة؛ بل إنه في عديد من الحالات ألهم الأوَّلون -- المبدعون -- الآخرين -- النُّقادَ -- نظريات ومنهجيات جديدة.
وليس لب الأمر هو أن النقد يأتي بعد أن يجيء النص، بل إن المعضلة --التي لا يد لأحد فيها -- هي أن أي، وكل، ما يمكن أن يقوله النقد إنما يجيء من خارج نصِّي أولاً وأخيراً: يستطيع النقد أن يشرِّح لغتي ويُحيلها إلى هذا الأصل أو ذاك الفرع، أو التنويع، أو التوزيع، وهذا خبر ينبغي أن يكون سعيداً لطلبة الجامعات في كليات الطب، والأدب، وبعض مسائل الفقه البيطري.
لكن مشكلة النقد -- ومشكلتي على حد سواء -- هي أن لغتي، ودموعي، وهواجس موتي لا تجعله قادراً على فهم عذابي بالضرورة. العكس هو الصحيح تماماً: عذابي أكبر من مقاربة النقد بالضرورة. عذابي ضباب والنقد سلَّة في فيلم المخرج السيرلانكي دهارمسانا باثيراجا "الزَّنابير هنا".
غير مسموح للنقد أبداً بأن يتسلى بإرهابي (إنْ إلى حينٍ أو حينَ...).
إلى هذا فمخطىء من يخال أن النقد الأصيل، مثل كل أنواع وأجناس الفن، ليس نتاجاً إبداعيَّاً كامل الشرعيَّة، والحقوق، والواجبات؛ فالذين يعاملون النقد على أنه مواطن من الدرجة الثانية، ويلوكون عبارة "الناقد مبدع فاشل" (وللأسف، هم غير قليلين في أوساطنا الثقافيَّة -- السَّخافيَّة -- العربيَّة خاصة) لا يفهمون الكثير إنْ في النقد أو في الإبداع، وهؤلاء لا يُعوَّل عليهم.
قد تكون هناك استثناءات (في قديم الزمان على وجه الخصوص)، كما في حالة الشِّعر. لكن، آه، من يستطيع الكلام عن الشِّعر؟!
(4)
في ما يخص الغرب "المتحضِّر"، كانت الديمقراطيَّة، ولا تزال، الحل الأمثل (و"علاج مشاكل الديمقراطيَّة يكمن في المزيد من الديمقراطيَّة" كما رأى وِنستُن تشرتشل)، وذلك من حيث أن تلك الديمقراطيَّة جاءت باعتبارها نتيجة لسلسلة من المراكمات والتجارب التاريخيَّة أدت إلى حالة "الأمر الواقع"(“de facto”) أمام التحولات ونقاط اللاعودة الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة الهائلة الناجمة عن الثورة الصناعيَّة، وما اقترفته الكنيسة -- بالكاثوليك والبروتستانت -- من كوارث، وما تسببت به الفاشيَّة من أهوال (ليس بنفس الترتيب ونسبة الفعل بالضرورة، وضمن عوامل أخرى أيضاً).
لم يكن أمام الغرب أي حل سوى الديمقراطية. لم يكن الغرب راغبا في المزيد من الدماء البينيَّة (الإنجليز والفرنسيون، مثلاً، تقاتلوا لأكثر من مائة عام، من 1337 وحتى 1453، وقد كان ذلك كافياً للطرفين للاهتمام بمسائل هامشية جادت مع الصراع من قبيل التعايش السلمي المشترك، تقريباً).
أما استعباد شعوب العالم الثالث، وسلب خيرات وثروات بلدانها، فلم يكن لهما علاقة ذات شأن بالأمر سواء في الأسباب أو في النتائج.
في ما يخصنا في ما حدث، على النحو الذي حدث فيه، في الصحافة والمجازر، في "الربيع" وبقية الفصول، والسجون، والانقلابات، والاختفاءات القسرية، والدبابات، والإذاعات، كانت الديموقراطيَّة هي الصيغة الأكثر تهذيباً للطغيان، والأكثر إجماعاً عليه.
"الأكثريَّة على خطأ دوماً" (نيتشه).
(5)
السفر أنجع طريقة لمراوغة الموت والتشاقي على قسطنطين كفافيس والتضامن معه في ذات الآن:
"لن تجدَ أراضيَ جديدة، ولا بحاراً أخرى
فالمدينة ستتبعك
وستطوِّفُ في الطُّرقات ذاتها
وتهرَم في الأحياء نفسها
وتشيبُ، أخيراً، في البيوت نفسها
ستؤدِّي بكَ السُّبل، دائماً، إلى هذه المدينة
فلا تأْمُلَنَّ في فرار
إذ ليس لك من سفينة
ولا من طريق
ومثلما خرَّبت حياتكَ في هذه الزاوية من العالم
فهي خراب أنَّى ذهبت".
ومع ذلك كلِّه، لا بد من كفافيس والتضامن معه أيضاً، ولا بد من إيثاكا ولو طال السَّفر:
"وأنت تزمع الرحيل إلى إيثاكا
فلتصلِّ من أجل أن يكون الدرب طويلاً
مليئاً بالمغامرات والمعرفة
ضع إيثاكا دائماً في الاعتبار
الوصول إلى هناك مُقدَّر لك
[...]
لكن لا تسرِّع الرحلة، في الأقل
والخير أن تستمر الرحلة أعواماً
كي تبلغ الجزيرة شيخاً
غنيَّاً بما كسبته في الدرب
غير متوقِّعٍ من إيثاكا أن تهبك الغنى
[...]
لقد وهبتك إيثاكا الرحلة الرائعة
وبدونها لم يكن بإمكانك الرحيل".