هيا فلنقتل دون أن نفكر!
يعود النقاش حول جدوى العلوم الإنسانية وتعليمها، مع القرار الذي اتخذه وزير التعليم المصري بحذف مقررات العلوم الإنسانية في مرحلة التعليم الثانوي، ورغبة الحكومة المصرية في إغلاق كليات الآداب والعلوم الاجتماعية، يصاحب هذا القرار جدل واسع في المجتمع المصري، ما بين مؤيد ومعارض له.
بالنسبة لي لا أستطيع في هذا السياق اجترار الحديث الذي لطالما تبنيته عن العلوم الإنسانية وأهميتها، لا أستطيع أن أكرر نفسي لهذا الحد لأسباب - عزيزي القارئ - تتعلق باعتدادي بنفسي لا بسبب احترامي لك فحسب. لذلك دعنا لا نذهب إلى هناك، ونقول إن الاستقطاب بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية مختلق ولا صحة له، وأنهما معًا ببديهية يسعون لقتلها دومًا. سأكتفي بهذا السياق بما كتبه أحد الأصدقاء: «الحديث عن جدوى العلوم الإنسانية سيستمر دائما بغرض بتر وتطويع الوعي السياسي لدى الناس. جدوى العلوم الإنسانية هي البوصلة السياسية والأخلاقية التي تسمح لمستخدميها بمقاومة مشروعات الإخضاع والتحييد والتطويع المستمرة التي تستثمر فيها أنظمة الاستبداد والاستعمار». وأريد أن أؤكد قبل الانتقال للعبة التي أنوي إشراكك فيها عزيزي القارئ لكلمات لم ترد في الاقتباس السابق: الجمال، المتعة، الرفاهية، الحساسية، الخيال، الإيمان، العاطفة، التواصل، وغيرها من الكلمات. وبمناسبة الأخلاق، فإن الأنظمة السياسية والاجتماعية في العالم، وجهت سؤالاً في فترة تقديم لقاحات كورونا للفلاسفة وحدهم: هل يصح أن أجبر الناس على أخذ اللقاح بينما هم أحرار، وهذه هي أجسادهم. كان اللقاح قد كُشف عنه بالفعل آنذاك.
هنالك نوع أدبي يدعى «الديستوبيا» وهي نقيض «اليوتيوبيا» تتعلق الأولى بمكان كابوسي منظم يخضع لسلطة بقبضة حديدية، وهي في حقيقة الأمر ليست سوى وجه آخر لليوتيوبيا أي المدينة الفاضلة، إنها إذن المكان الذي يُسعى فيه باستمرار لإخضاع الناس لقوانين صارمة تعتقد السلطة وحدها أنها الأمثل لحياتهم وذلك بتحييد الناس عن تعقيدات الحياة على اختلافها. أفلاطون في مدينته الفاضلة قرر طرد الشعراء، ذلك لأنهم يؤججون مشاعر الناس وانفعالاتهم، قرر تقسيم المجتمع لطبقات واضحة حسب حاجة المجتمع تتضمن تربية الأطفال بطريقة منظمة ولا تخلو من الكابوسية طبعًا. تتوفر الديستوبيا على قدر عالٍ من السخرية، وغالبًا ما تكون سخرية مريرة وكوميديا سوداء. ويجب أن نقول بدورنا اليوم إن ما نعيشه منذ السابع من أكتوبر تجاوز قدرة أي كاتب ديستوبي على ترويعنا وإخافتنا. فالمرارة المنظمة والمعقلنة ها هي ذي تمتثل أمامنا كل يوم، وتجسدها دولة الاحتلال الصهيوني، التي تشبه الآلة، مصنوعة بقواعد بليدة، ورياضية ومسموح لها أن تكون لأنها هكذا فقط.
ثمة تنويعات عديدة على الأعمال الديتسوبية كنتُ قد كتبت عنها في وقت سابق، مثل رواية نحن للمؤلف الروسي يفغيني زامياتين التي - وأقتبس هنا من مقالة سابقة لي نشرت هنا عام 2016- تحكي في صفحاتها الأولى، أن «( د ٥٠٣) يعيش في الدولة الواحدة، حيث كل فرد فيها ما هو إلا عدد، طرف من معادلة، (د ٥٠٣) لا يحب الشعر ولا الشعراء ويسخر منا نحن البشر الذي عشنا قبل مائتي عام، ويسمينا بالمتوحشين، كل شيء يعتمد في هذه الدولة على العمليات المنطقية التي يقيمها العقل، حتى الحب، يرى (د ٥٠٣) أننا سخفاء فيما يتعلق به إلى درجة كبيرة، كل ما يلزم معرفته هو الخضوع لتحليل طبي للتعرف على وقت التزاوج لكل واحد منا والتلاقي مع الجنس الآخر في وقت التزاوج هذا، أما الأمر بالنسبة له فلا يعدو كونه نكتة، هنالك من الأعمال الجديدة المشهورة في الأوساط الأدبية من هذا النوع الأدبي رواية: شرطة الذاكرة للكاتبة اليابانية الرائعة يوكو أوغوا عندما لا يتذكر الناس أي شيء في مكان معزول، وتصبح القدرة على التذكر في هذا الوطن الجديد مأساة تراجيدية تتطلب التدخل العاجل من قِبل السلطة. حسنًا أتمنى أنني قدمتُ تفسيرًا وإن كان بسيطًا للديستوبيا. فلنلعب الآن.
تخرجُ من بيتك كل صباح في طريقك للعمل، كنت قد رتبت لباسك وهو لباس موحد، ولم تنظر في المرآة لأنه لا ينبغي عليك أن تهتم كثيرًا بمظهرك ما دمت قد استحممت وفقًا لكتاب التعليمات البشري الذي زودك به النظام، تصعد الحافلة التي ستأخذك للعمل مع أشباهك الآخرين، ولا يسمح لك بالتفكير في هذه الأثناء، لا شجارات من حولك، لكنك مع ذلك لستَ سعيدًا، يعلمونك أن هذا هو الطبيعي، أن تكون باهتًا هو الأمان المطلق، تخيل لو أنك تتكلف عناء الانفعال، لكن لا نسيتَ أنك لا تستطيع أن تتخيل. تقوم في عملك بتطويع تطبيقات الذكاء الاصطناعي على أن تحدد أهدافها بدقة عندما يتعلق الأمر بالاستهداف من أجل تصفية من يستحقون الموت، لماذا هم يستحقون الموت؟ تلك ليست مسؤوليتك، كتاب التعليمات لم يشر لذلك على الأقل، قم فقط بما أوكل إليك، في فترة الاستراحة، يقتصر تواصلك مع زملائك في العمل، بالتلويح بطريقة مرسومة سلفًا، وإذا تحدثتم تشاركتم أخبار التقنية الجديدة، تتناولون في هذه الأثناء طعامًا محايدًا نتج عن مخيلة طباخ محايدة، ومع أن الطعام لا يبدو ممتعًا، إلا أنك لا تعرف أن عليه أن يكون كذلك. يُسر لك صديقك بأن دولة بعيدة تقول إن ما تعيشونه يعد قهرًا واستبدادًا وأن هنالك طرقًا أخرى للعيش، ورغم أنك تطرد الفكرة فورًا من رأسك وتفكر في الإبلاغ عنه، إلا أن عدم سعادتك تلحُ عليك، لكن ليس ثمة من سيترجم لك ذلك الكتاب الخيالي ثم إن الكتب الخيالية ممنوعة ومصادرة. هل يُعقل أن تفكر في التهريب؟ ها أنت ذا قد بدأت تحيدُ وستهلك لا محالة. عد للبيت نم في الوقت المناسب الذي جاء في كتيب التعليمات، نم على ظهرك لأنها الطريقة الأصح لتحافظ على حياتك وقتًا أطول، فتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تستهدف من يستحقون الموت لم تنتهِ بعد.