هوامش...ومتون : الحروف وأسرارها المدهشة
في زيارتي لعمّان استوقفني اسم مقهى حمل اسما من حرفين، هما: السين والعين، وحين استفسرت عن دلالة الاسم أشار صاحب المقهى (د. أياد طه) إلى عنوان رواية له هو (س .ع)، وقال لي: لكي تعرف مغزى الاسم، اقرأ الرواية التي يخفي البطل فيها اسمه تحت غطاء حروفي، لضمان أمنه الشخصي، وقبل شهور، حدث أن نشرت لي مجلة ثقافية مقالا، مكتفية بذكر الحروف الأولى من اسمي، فيما ظهر الاسم الكامل على مادة أخرى، بالعدد نفسه، ولم أفاجأ، ولم أنزعج كثيرا، فتكرار الاسم في العدد الواحد، من الأمور غير المقبولة مهنيّا، لكن أحيانا تقتضي الظروف ذلك، وليس من حلّ أمام القائمين على إدارة تلك المجلّة، سوى الاكتفاء بالحروف الأولى من الاسم، مثل هذا يحصل كثيرا، في العمل الصحفي، ففي الأعراف الصحفيّة، عندما تُنشر أكثر من مادة لكاتب واحد، يرفع الاسم تجنبا للتكرار، ولتثبيت حقه الأدبي، وقد يكتفي كاتب آخر بحرف من اسمه، إذا كان مقاله قصيرا، ولا يستحقّ كتابة تحته اسمه كاملا، وضمن هذا السياق، استحضرت الحروف وأسرارها عند الصوفيين، الذين ذهبوا بعيدا في رحلتهم مع الحروف، وكشوفاتهم، حتى بلغوا مرتبة عليا من الغلوّ، كما يشير ابن خلدون، وظهر علم حمل اسم (علم أسرار الحروف) ومن بين من تحدّثوا عن أسرار الحروف ابن عربي الذي يقول "الحروف أمة من الأمم" وقد فصّل ذلك في كتابه (الفتوحات المكية)، مشيرا إلى أنه تأثّر بإخوان الصفا، ولو وضعنا آثار المتصوّفة، والمحمولات الرمزية للحروف جانبا، سنرى أن الحروف ظلّت تخفي أسرارها إلى يومنا هذا، وقد ظهرت تجلياتها في الفنون ومن بينها: الرسم، والشعر، يقول الشاعر الحروفي أديب كمال الدين: " إنّ حروفيتي في أصلها قرآنية. فالحرف العربي حامل معجزة القرآن الكريم ولا بد لحامل المعجزة أن يكون له سره أيضا، كما أن الرحمن أقسم في مطالع العديد من سور القرآن الكريم به، وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعا وكاشفا للقناع، وأداة وكاشفة للأداة، ولغة خاصة ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف حتى أصبح بصْمَتي الشعرية والفنية والروحية"، وإذا كان الحرف بصمة أديب كمال الدين الشعرية، فهناك شاعر وناقد وكاتب مسرحي كبير جعل الحرف بصمة في اسمه، هو الأمريكي (توماس ستيرنز اليوت) الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1948 الذي يرد اسمه هكذا (ت. س. اليوت)، فمن اسمه الأول (توماس) اكتفى بحرف التاء، ومن اسم والده ( ستيرنز) حرف السين، فيما أبقى لقب الأسرة ( اليوت) كما هو. وقد لفت نظري أن جميع أعمال السيدة (غالية بنت فهر بن تيمور آل سعيد) تحمل اسم (غالية ف. ت. آل سعيد)، فقد أخذت من الأب السيد (فهر) ومن جدّها السلطان تيمور بن فيصل حرف التاء، وحين سألتها عن إصرارها على تثبيت حرف (التاء) أجابت "اعتزازا بجدّي الغالي السلطان تيمور بن فيصل وارتباطي الروحي به على الرغم من أنّي لم أحظ برؤيته، فقد توفي وأنا في عمر صغير، لكن هو الذي طلب من أبي أن يسمّيني غالية"
وقد جعلتني هذه الجولة، أعود إلى سنوات بعيدة خلت عندما تابعنا في الستينيات، وبدايات السبعينيات، مسلسلا كوميديا ظهر على شاشة تلفزيون بغداد، عنوانه ( تحت موس الحلاق)، وكان من إخراج (ع. ن. ر) هكذا كان يرمز لاسمه، وكنا نستغرب ذلك، ولم نفهم معناه، ثم عرفنا بعد سنوات بأن (ع. ن. ر) هي الحروف الأولى من اسم المخرج الراحل ( عمّا نوئيل رسّام)، ولليوم لا أعرف لماذا اختار هذا الاسم الفني الغريب، ولماذا لم يوقّع أعماله باسمه الصريح، طالما أنّه كان معروفا، وله حضوره في الأوساط الفنية؟
وأوضح أن للحروف التماعات، جعلته يقع أسيرا لها، هذه الالتماعات هي التي جذبت انتباهي لعنوان المقهى، والرواية، وأسرار الحروف، وطلاسمها المثيرة للدهشة.