هوامش... ومتون :وأنا أيضا أصفّق لـ «سارة»!
في مرحلتنا الدراسيّة الابتدائية، عندما كنّا نجيب عن سؤال يعجز عنه زملاؤنا، فإنّ أقصى ما كنّا نطمح إليه، هو تصفيق أقراننا من التلاميذ في الفصل الدراسي، يظلّ يرنّ في أذاننا حتى نهاية اليوم المدرسي، وحين نعود نحمله معنا إلى بيوتنا، لتكتمل فرحة الأهل، بالتصفيق الذي لا يكلّف سوى تحريك اليدين، وتلامس باطني الكفين، لكنّه يعني لنا ، يومئذ، الكثير، كونه يمنحنا شعورا لا يوصف بالامتلاء، والرضا عن الذات، فالتصفيق إشارة ذات دلالة تعني أننا تفوّقنا في واجبنا.
بعد سنوات، كبرنا، وكبر التصفيق الذي انتقل معنا إلى قاعات المسارح، ودور السينما، والملاعب الرياضيّة، والمراكز الثقافيّة، وتعدّدت دلالاته، واتّسعت، وهنا ينبغي التمييز بين التصفيق العفوي، التلقائي النابع من القلب، والتصفيق المفتعل، والمزيّف الذي له غايات دعائية، وتضليلية، كالذي يصدر من «جوقة المصفّقين» التي تقوم بدعم عرض مسرحي لقاء مبلغ من المال، وقد ظهر بادئ الأمر في فرنسا، في القرن السابع عشر مصاحبا التنافس بين الفرق المسرحية، والممثلين، والمخرجين!
الذي أتحدّث عنه، التصفيق العفوي، الذي يدلّ على استحسان الجمهور، وإعجابه، فيشعر المصفّق له بتقدير المحيط، لذا، فأنا أدرك تماما شعور «سارة جيلبريت» رئيسة الفريق الذي صنع لقـاح استرازينيكا ضد كورونا، عندما جوبه حضورها في ملعب ببريطانيا، بالتصفيق الحار الذي دام طويلا، كما شاهدت في مقطع فيديو، فاستحضرت قول المتنبي:
ذي المَعالي فَليَعْلُوَن مَن تَعالى
هَكَذا هَكَذا وَإِلا فَلا لا
شَرَفٌ يَنطِحُ النُجومَ بِرَوقيـ ـهِ
وَعِزٌّ يُقَلقِلُ الأَجبالا
فعندما يصفّق جمهور ملعب لعالِم صنع منجزا طبيّا يخدم البشريّة جمعاء، فهذا يعني الكثير، فالمجتمع بأكمله يدين بالفضل له، ولمنجزه، وهذا يعطيه دافعيّة، وحافزا لتقديم المزيد.
ذات يوم حدّثني الشاعر عيسى حسن الياسري، قال إنه زار مدينة في بلغاريا مطلع الثمانينات، وشاهد في حديقة عامة تمثالا لصبي لم يبلغ العاشرة من العمر، وجواره يلعب الصبيان الكرة، فتساءل الياسري، عن الشيء الذي فعله هذا الصبي لكي تضع بلدية بوخارست تمثالا له، فأجابوا على تساؤله: كانت له محاولات في كتابة الشعر واعدة، ولكن القدر لم يمهله ، فسألهم ثانية: وما العبرة من ذلك؟ أجابوا: انظر إلى الأولاد الذين يلعبون جوار التمثال، هؤلاء أصدقاؤه، وزملاؤه في المدرسة، وقد وضعنا التمثال لتحفيزهم، وزرع في نفس كلّ واحد منهم رغبة أن ننصب له تمثالا، وسط هذه الحديقة، من خلال تقديم عمل يخدم المجتمع، فيستحق التمثال!
ولنقارن هذا بمنشور للإعلامي السعودي ميسّر الشمّري، وضع به صورتين لشاعر عراقي حصل على جائزة أدبية في القاهرة، مؤخّرا، فيما يمارس عمله في «شركة نظافة» بالسويد، كما توضّح الصورتان المرفقتان بمنشوره الذي يصحبه بتعليق مكتوب بعبارات تفيض مرارة، (ربما أراد هذا الشاعر من خلال عمله في تنظيف الشوارع، والمباني في مالمو بجنوب السويد، أن يقول: أنّه يعمل على تنظيف روحه من أمته التي لم تقدّر منجزه الأدبي).
المشكلة عندنا أنّ الطفل يولد عبقريا، بمعنى يحمل بذور العبقرية، ثمّ يصطدم بالواقع الذي يضع المطبّات في طريقه، وشيئا فشيئا تتراجع قدراته، وأحلامه، ويصير ما هو عليه، لخلل في تربية المجتمع، وإهماله، لذا ربما يصبّ جام غضبه عليه، باعتباره الصخرة التي تحطمت عليها أحلامه، وإرادته، فيتحول إلى عدو للمجتمع يقول الكاتب الروسي مكسيم غوركي «أذكر أن كلهم أرادوا أن يصبحوا أطباء أو رواد فضاء في صغرهم، يا إلهي .. من أين خرج لنا كل هذا الشر ؟! من أين خرج كل هؤلاء القتلة والشياطين ؟!»
التشجيع والتحفيز ضروريان، فالإنسان «يبحث عن تقدير المجتمع؛ فإن كان المجتمع يقدّر رجال الدين كثُر المتدينون، وإن كان المجتمع يقدّر اللص كثُر اللصوص» كما يقول عالم الاجتماع د. علي الوردي، لكننا اليوم، للأسف الشديد، صرنا نقدّر الجهلة، ونهمل العلماء، فتراجع العلم، لذا من الطبيعي أن تتّجه أنظارنا بعد تفشّي الجائحة إلى العالم المتقدّم الذي يقف إجلالا، وتقديرا، ومصفّقا لعالِمة، قدّمت منجزا طبّيّا، كـ «سارة جيلبريت».