هوامش ومتون :«نقيق».. مآسي الحروب على الخشبة
يمكن أن نعدّ جملة «ما بعد الحرب أبشع من الحرب» التي وردت على لسان بطلة مسرحية (نقيق) للكاتبة روعة سنبل، والمخرج الدكتور عجاج سليم، مقولة العرض الذي شارك ضمن عروض مهرجان الدن الدولي الرابع، الذي فاز بأكثر من جائزة من بينها جائزة أفضل نص (روعة السنبل)، وأفضل ممثل (وليد الدبس)، وأفضل ممثلة دور ثانٍ (ندى العبدالله)، ويتحدّث عن مأساة الحرب في سوريا وما خلّفته من تشوهات نفسية، وهزائم روحية، ومحاولات للتأقلم مع الأوضاع القائمة، مثل الضفادع عندما توضع في حوض به ماء يتم تسخينه تدريجيا، حتى يموت دون أن يشعر، تلك الآثار انعكست على أبطال العرض، وهو من إنتاج وزارة الثقافة السورية، ولم يكن من المستغرب أن تهيمن الكوابيس على أبطاله الذين ذاقوا مرارة الحرب، وعاشوا ويلاتها، وفقدوا الكثير، وتدور أحداثه حول أم ّتتعرض لقذيفة قتلت ابنها الصغير، وأصابتها شظية جعلت مقعدة على كرسي متحرك، وليس معها سوى حماتها، بعد سفر زوجها هربا من الحرب، تستذكر أيام دراستها الطب، وتشريح الضفادع في المختبر، فتشعر بتأنيب الضمير، ووسط هلوستها يدخل البيت ضفدع هرب من التشريح ليبدأ في الانتقام منها، وخلال ذلك يتحدّث لها عن معاناة الضفادع في المختبرات، في واحد من أجمل مشاهد المسرحية، حيث يشغّل المخرج أدواته: الأداء الحركي، الرقص التعبيري، والمؤثرات الصوتية، والستائر البيض التي تتحوّل إلى ستار مسرح داخل المسرح، وفي الوقت نفسه شاشة لعرض فيديو توضح عملية تخدير ضفدع في مختبر التي تتم بغرز إبرة في منطقة بظهره تشلّ جهازه العصبي، بحيث تُجرى عملية التشريح وهو حيّ، فإذا كان الضفدع يشعر بكل هذه المعاناة، فكيف يكون شعور الإنسان؟
وكذلك جاء مشهد قطع رؤوس زهور دوار الشمس، وسحقها، ومشهد البالونات التي جرى تفجيرها فانطلقت منها أصوات تشبه أصوات الطلقات.
وقد استعانت الكاتبة (روعة سنبل) في نصها الفائز بجائزة الهيئة العربية للمسرح (2020م) بنصوص للشاعر السوري الراحل رياض صالح الحسين صاحب ديوان (خراب الدورة الدموية) كفواصل لإظهار مشاعر الشخصيات، ورفع إيقاع العرض وتعميق مشاهده وذلك على شكل مقاطع غنائية أدّتها الفنانة الشابة (إيناس رشيد)، فزادت صور نصوصه المدهشة من غرائبية العرض:
قلبي سائغ للقضم
ملجأ للأرانب الزرقاء
سمكة قرش بزعانف من صبار شرس
قلبي سائغ للقضم
ويتحرك ببطء على بلاطك الشوكي أيتها الأرض
أيتها الأرض الممتدة من الموت بجدارة
على نصال الخناجر
إلى الموت بجدارة أشد
وقد زاد الأداء الراقص التعبيري للفنانة (سجى نوري)، من قوة بناء المشاهد، فرسم المخرج (الدكتور عجاج سليم) بخبرته المسرحية الطويلة، من أدائها الحركي التعبيري مشهدية بصرية، لوّن خطوطها: الغناء، والفيديو، والشعر، ليقدم عرضا غرائبيا كاسرا النمط التقليدي، ليس على مستوى الشكل فقط، بل حتى على مستوى البناء، ففي المشهد الأخير يقلب الأحداث فتبادلت الشخصيتان الرئيستان (الأم والزوجة) الأدوار، فإذا بالمقعدة هي الزوجة، فيما تقوم الحماة بالاهتمام بها، وهنا تكتشف الزوجة أن النقيق مصدره رأسها، وأن الضفدع هو نتيجة الهلوسة، والحوارات التي جرت معه طوال العرض هي من تخيّلاتها.
لقد استندت الرؤية الإخراجية على عدّة ركائز أساسيّة تمثّلت بـ: السينوغرافيا، المهارات الأدائية، المؤثرات الصوتية، الرقص التعبيري، على صعيد السينوغرافيا، نجح المخرج في رسم مشاهد بصرية، أظهرت المشاعر الداخليّة للأشخاص، فعلى جانبي المسرح وضع ثوبين عملاقين على امتداد علو المسرح ينتهيان برأسين مقطوعين، مثبتين بعمود، وفي العمق ستائر بيض، وخشبة مسرح صغير، وساهمت الإضاءة في إضفاء أجواء قامت بكسر الرتابة، وجاء الأداء الحركي متقنًا للممثل الذي أدى دور الضفدع (وليد الدبس) والممثلتين (ندى العبدالله) التي أدت دور الأم و(ريم زينو) التي مثّلت دور الزوجة، وبرعت (سجى نوري) في الرقص التعبيري، رغم أنها التحقت بفريق العرض، بعد قدومها من برلين، خلال أيام المهرجان، وكان لأداء المغنية (إيناس رشيد) التي وضعت الألحان، أيضا، دور في إضفاء جمالية وعمق على العرض، وكلنا نعرف صعوبة وضع ألحان لقصيدة النثر فلا تخضع للقوالب اللحنية الموسيقية المعروفة.
كما أسهمت المؤثرات الصوتية في إعطاء موضوع العرض، أبعادا دلالية، وقد حافظ المخرج على إيقاع العرض فجاء منضبطا، وكان ممتعا ومدهشا، رغم لغة الألم التي هيمنت على العرض، وغطّته برداء أسود مظهرا بشاعة الحرب تلك البشاعة التي صوّرها زهير بن أبي سلمى بقوله:
وما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً
وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ