هوامش.. ومتون: في مهبّ الـ « زاهي »
بعض المهن توفّر فرصًا لأصحابها لا تتوفّر لسواهم، فيقتربون بحكم عملهم من شخصيات ليس من السهولة اللقاء بها ومجالستها، وفي النهاية الاستفادة من تجاربها في الحياة، ومثلما «السعادة معدية» كما يقول باولو كويلو حين أوصانا بالاقتراب من الذين « يغنّون، يروون قصصًا يستمتعون بالحياة، الذين تلمع عيونهم سعادة » فإن الحكمة تنتقل بالعدوى أيضًا، وقد سئل أحد الحكماء: مَنْ أفضل الرجال؟ فأجاب: مَنْ إذا حاورته وجدته حكيما، وكما هو معروف «الحكمة ضالّة المؤمن»، فكيف يكون الحال مع رجل حاور أكثر من 3000 شخصيّة ثقافيّة وفنية وسياسية.
دار هذا السؤال برأسي، خلال لقائي الإعلامي بالشاعر زاهي وهبي في مسقط التي زارها بدعوة من جمعيّة الصحفيين العمانية للمشاركة في المؤتمر العام لاجتماعات الاتّحاد الدولي للصحفيين (الكونجرس31)، وكان لابدّ لي سؤاله عن الشخصيات التي حاورها على مدى أكثر من ثلاثة عقود من بينها خمسة عشر عامًا في برنامجه (خليك بالبيت) الذي كان يعرضه تلفزيون المستقبل، بشكل أسبوعي، وحاور من خلاله حوالي ألف شخصية ثقافية وفنية وعربية، قبل أن ينتقل إلى قناة (الميادين) ليقدّم برنامج (بيت القصيد) الذي يواصل تقديمه منذ عشر سنوات، وقبل ذلك عمل في الصحافة الورقية سنوات، فوفّر له عمله فرصًا نادرة للجلوس مع شخصيات ليس اللقاء بها سهلًا، كما حصل مع (أوبرا وينفري) التي استضافت في برنامجها المعروف الذي حمل اسمها شخصيات شهيرة من بينها أربعة رؤساء حكموا الولايات المتحدة الأمريكية، وما كانت ستتوفر لها هذه الفرصة لولا عملها الإعلامي.
والجميل أنّ بعض الشخصيّات التي التقى بها زاهي، وحاورها أمام عدسات التصوير، عقد معها صداقات ظلت مستمرة إلى اليوم، وهذه من مكاسب العمل الإعلامي الذي يتوجّب على مَن مارسه أن يكون رجل علاقات عامّة، ويوما بعد آخر تزداد معارفه وتتضخّم ذاكرة تلفونه سابقًا دفتر التلفونات، بما يمدّها من أرقام لمسؤولين وفنّانين وأدباء ورجال أعمال، وموظفين يعملون في مختلف القطاعات، وهي ضرورية في مجتمع، كمجتمعنا العربي، يقوى الفرد به بعلاقاته العامّة، وحتى في المجتمعات الغربية، لا يستغني الفرد فيها عن أمثال هذه العلاقات.
ومن محاسن البرامج الحوارية، كما ذكر الإعلامي زاهي، أنّها جعلته يقرأ عن الشخصيّات التي ينوي محاورتها، فيطّلع على نتاجها الفنّي والأدبي والفكري، ليكون حاضر الذهن، جاهزًا لمجاراتها، ومحاورة تجاربها، فاتّسعت ثقافته، وهو القارئ النهم الذي قرأ نتاج كبار الأدباء العالميين، في مرحلة مبكّرة من عمره، كونه نشأ في بيئة تعلي من شأن التحصيل الفكري والثقافي منخرطًا في العمل السياسي المواجه للغزو الإسرائيلي للبنان، وقد دفع ثمن ذلك غاليًا حين اعتقل لمدة سنة، في سجن « عتليت » داخل فلسطين، و «أنصار» في جنوب لبنان، وبعد ذلك عاد للمعتقل في «بنت جبيل» عام 1985، قبل أن ينتقل إلى بيروت للعمل في صحافتها الورقية ومن ثم في تلفزيون «المستقبل»، ليفتح المستقبل الزاهر لزاهي ذراعيه، وهو الذي بدأ حياته الثقافيّة شاعرًا، فأصدر عام 1990 ديوانه الأول «حطاب الحيرة» أعقبه عام 1992 بـ « صادقوا قمرا» و « في مهبّ النساء » عام 1998 ليواصل الرحلة مع القصيدة ليصدر أكثر من عشرة دواوين كان أحدثها «ليل يديها» متغنيا بالحب، والجمال حتى وهو يخاطب الموت قائلًا:
تأخّرْ،
في القلب متسع للحب،
في الرئتين هوى لا هواء
للأصدقاء مهلا،
لا وقت للدمع
لا وقت للبكاء
وتلك كانت من وحي معاناته مع (كورونا) الذي أقعده في المستشفى خمسة عشر يومًا نصفها في العناية المركّزة، وقد حدّثنا بألم عن تلك المعاناة، مثلما حدّثنا بسعادة وفخر عن كلمات أغنية كتبها للمطربة فايا يونان عن (بغداد) غنّتها خلال مشاركتها في مهرجان بابل للثقافات والفنون، فردّد الجمهور معها:
بغداد بين الشفتين تعويذة عذراء
بين العينين خرزة زرقاء
بين الضلعين صلاة
وصفّق لفايا مثلما صفّق لكلمات زاهي، الذي طغى عمله في مجال الإعلام، ونجاحاته المهنية على حضوره الشعري كواحد من شعراء الجنوب اللبناني، وبالقدر الذي يسعده هذا النجاح إلا أنّه يحزّ في نفسه أنه يأتي على حساب الشاعر، ولكن لولا حضور (الشاعر) على الشاشة بثقافته، وروحه، ولغته في الحوار، فهل سيحقّق هذا النجاح الذي تتوقّعه؟
وحتى في الشارع، عندما يقابله الناس، ويلتقطون معه الصور التذكارية، يحضر (الوجه) الإعلامي أكثر من الوجه (الشعري)، وهذا لا يقلّل من ذاك، بل يدعم الإعلامي الذي حاور شخصيات بعضها غادر عالمنا، وصارت تلك الحوارات وثائق نادرة، محفوظة في الأرشيف، وبعضها ربما تعرّض للتلف؛ بسبب الإهمال، قلت له: لم لا تحوّل تلك الحوارات المرئية إلى مكتوبة، لتوفير مصادر للباحثين، والدارسين؟ فأجابني:
هذا شغل مؤسسات، فالأشرطة تحتاج إلى تفريغ، وتحرير، ومراجعة، وهو بالفعل كذلك، كما لمستُ من خلال تجربتنا مع الشاعر وسام العاني التي جمعنا بها حواراتنا المرئية، بكتاب عنوانه« كتاب مفتوح - حوارات ثقافيّة رقميّة »، لكنّه عمل ينطوي على معلومات قيّمة تضيء مساحات واسعة من حياة شخصيات ثقافية وفنية زاهية.