هوامش.. ومتون : في شارع «شاغل الناس»
ربما لم يدر بخاطر الملك غازي عندما أطلق على (شارع المتنبي) سنة 1932م هذا الاسم أنه سيصبح علامة ثقافية بارزة، خصوصا يوم الجمعة، حيث تقام الندوات والمحاضرات والحفلات الموسيقية والغنائية، وتنشط حركة بيع الكتب، وتقام المعارض التشكيلية، ويغص بالمرتادين لدرجة أن رجال الأمن ينتشرون بشكل مكثف لتنظيم الحركة، وفي السنوات الأخيرة صارت زيارة شارع المتنبي من الفقرات الثابتة في برامج زائري بغداد، فهذا الشارع الذي يعد من أقدم شوارع العاصمة بغداد يعود تأسيسه إلى زمن الدولة العباسية (132 م)، وغالبا ما يكون المتنبي مركز هذه الأنشطة، اسما، وتمثالا، وحضورا شعريا ممتدا لـ«مالئ الدنيا وشاغل الناس» كما ذكر ابن رشيق في كتابه (العمدة)؟ العبارة الأشهر، التي صارت قرينة باسم المتنبي، وحين زرت قبره الكائن في محافظة واسط التي تقع على الضفة الغربية من نهر دجلة، وتبعد عن بغداد حوالي 180 كيلو مترا، قرأت على شاهدته عبارة ابن رشيق مع التعريف به «أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي المتنبي، شاعر العربية الأكبر ولد في محلة كندة بالكوفة سنة 303 هجرية وتوفي مقتولا عام 354 هجرية وهو القائل:
«وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرا ردد الدهر منشدا
فدع كل صوت غير صوت فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى»
حضور المتنبي في هذا الشارع مستمد من حضوره في ذاكرة الشعر العربي، وإذا كان مؤرخو الأدب يختلفون حول سبب مقتل المتنبي سنة 354 هـ، فمنهم من يرى أنه قتل بسبب هجائه لضبة بن يزيد على يد خاله فاتك الأسدي، وهناك من يرى أنه ذهب ضحية قطاع طرق طمعوا بهدايا كان يحملها بعد مدحه لعضد الدولة بن باويه، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك عندما رأى أن وراء مقتله، مع ولده محسد، سببا سياسيا، على يد البويهيين نكاية بالحمدانيين، الذين كان لسان المتنبي يلهج بذكر مناقبهم، لكن معظم هؤلاء المؤرخين يتفق على أن الواقعة التي أودتْ برأس أكبر شعراء العربية جرت في قضاء النعمانية على مسافة خمسة كيلومترات من قصر النعمان بن المنذر، الذي سميت المنطقة باسمه لكونه هو من أسسها، فالثابت أن حادثة مقتله جرت في هذا المكان الذي يطلق عليه أيضا (دير العاقول)، ومنه استقى الكاتب عادل كاظم عنوان مسرحيته (الزمن المقتول في دير العاقول) التي قدمت ضمن الاحتفال بألفيته ببغداد 1977.
ومن شارع المتنبي ببغداد، الذي تجولنا به خلال زيارتنا له ضمن مشاركتنا بالأيام الثقافية العمانية التي تقام هذه الأيام ببغداد، إلى ضريح المتنبي في واسط، الذي زرناه قبل شهور قليلة خلال مشاركتنا في مهرجان (شاعر الشباب العرب) يبقى المتنبي مهيمنا على الشعرية العربية، ومثلما صار مركزا ثقافيا في بغداد، فضريحه الذي كان غرفة من الطين، ثم بنيت بالطابوق، ثم بني بالشكل الحالي صار مقصدا للسياح، الذين يقفون تحت أعمدته الستة التي يبلغ ارتفاع كل منها 13 مترا، تستند عليها قبة شاهقة في أسفلها مجسم لخوذة محارب، تتخللها رسوم وزخارف، تعطي الرائي انطباعا بالشموخ دلالة على شموخ المتنبي الذي جعل منه علامة بارزة في المنطقة، في تجمع الأهالي عنده في المناسبات والأعياد حيث تقام الاحتفالات وسباقات الخيل، بل وصار المكان موعدا لمهرجان حمل عنوان (المتنبي) تقيمه المحافظة بالتعاون مع الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين فرع واسط، حيث يلقي الشعراء المشاركون نصوصهم قرب الضريح الذي نقشت على صخرته عبارات وأبيات من شعره هي:
«ما رأى الناس ثاني المتنبي أي ثان يرى لبكر الزمان
كان من نفسه العظيمة في جيش وفي كبرياء ذي سلطان
وتبقى كلماته تتردد في جلال المكان الذي من الغريب أن بعض سكان المنطقة يتبركون به كواحد من الأولياء الصالحين، ويقدمون له النذور:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
والبيت الذي يقول المؤرخون أنه قتله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
عندما حاول الهرب من قتلته فذكره خادمه مفلح بهذا البيت، فعاد إليهم وقاتلهم حتى قتل، لكنه عاد شامخا في شارع يلتقط قربه عامة الناس الصور التذكارية، والملاحظ أن الشارع لم يعد يقتصر على النخب الثقافية، بل يرتاده الجميع من مختلف الأعمار، والجميع يتباهى بزيارته شارع «شاغل الناس».