هوامش... ومتون: فرجة مسرحية مزدانة بـ «ألوان الطيف»
عندما وضع الكاتب والمخرج المسرحي الألماني بيرتولت بريخت (1898-1956) منهجه في المسرح الملحمي، القائم على هدم الجدار الرابع الذي يفصل الجمهور عن الخشبة وكسر الإيهام، فإنه أراد إشراك المتلقي الذي اعتبره العنصر الأبرز في العرض، بما يدور من أحداث على الخشبة التي يعتليها ممثلون يذكرونه بأنهم يجسدون أدوارًا أسندها لهم المخرج ضمن (لعبة) متّفق عليها، وكسر هيمنة الفضاءات التقليدية، فلا توجد حكاية تحتوي على بداية وعقدة وحل، بل مواقف مختلفة ومناقشة القضايا التي تشغل الناس، وتشغيل الذهن، والتأمل، والتفكير، وصنع المفارقة الساخرة (الكوميديا السوداء)، وانتقاد الظواهر الاجتماعية، وصنع مواجهة بين فضاء العرض وفضاء التلقي، باعتباره وعيًا وليس انفعالًا، فيسقط عليه من وعيه، ولا يدع الجمهور يقف على الحياد، بل يشركه في الأحداث والتعليق عليها، ليكون المسرح باعثًا على التغيير الاجتماعي. وقد نجح المخرج ماجد العوفي في تطبيق هذا المنهج في عرضه المسرحي «ألوان الطيف» الذي قدّمته فرقة آفاق المسرحية ضمن فعاليات الأسبوع المسرحي للفرقة بالجامعة التقنية والعلوم التطبيقية في الخوير، والعرض الذي سبق له أن فاز بأكثر من جائزة بدءًا من من النص الفائز بجائزة الهيئة العربية للمسرح عام 2009، وهو الكاتب المصري محمود كحيلة، وهي جائزة أفضل عرض متكامل في مهرجان (بيت الزبير) 2018 م، وجائزة لجنة التحكيم في مسابقة ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي فضلًا عن الإشادات التي تلقاها من النقاد فريقه المتكوّن من شباب الفرقة:عبدالرحمن الهنائي، وعبدالملك الشيزاوي، وقصي الحارثي، ويعرب الرقادي، ومحمد السعيدي، ومحمد الجابري، ونبراس الشكيري.
وليس ذلك بغريب عليه، فقد حمل العرض روح الاختلاف، بدءًا من اختيار المكان الدائري شكلًا لتقديم العرض، والخروج المقصود عن النص الأصلي، بهدف تحويل العرض إلى لعبة مسرحية، فقام العوفي بتفكيك النصّ، وإعادة صياغته، وتطويعه لبيئة العرض، وتطعيمه بمشاهد كوميدية، باللغة الدارجة المحلية، وخروج الممثل الذي يطالب بتحقيق العدالة، من بين الجمهور، للقاء الحاكم لكنّ يد أحد حرّاس الحاكم، يعاجله بطعنة قاتلة، وحين يصل الخبر إلى الحاكم يوجّه بفتح تحقيق بالجريمة في ظرف تغيب فيه العدالة، فأعوان الحاكم تضغط على القاضي، وتطالبه بغضّ النظر عن القاتل، ويصرّ القاضي على أن يأخذ العدل مساره السليم، وتكثر المناقشات، وهنا ينهض ليفاجئ الممثل المقتول الجمهور، خارجًا عن النص، معلنًا احتجاجه على دوره، في مفارقة صنعت مشهدًا كوميديًا غيّر إيقاع العرض، شكلًا، ولغة، وهنا يضطر المخرج لإيقاف العرض، ليسند إليه دورًا آخر، ومن ثم تستمرّ(اللعبة) وتتصاعد الأحداث المؤطرة بفرجة مسرحية. نجح المخرج ( ماجد العوفي) في تقديمها موازنًا بين طرفي معادلة: النص، وشكل العرض، الذي جاء منسجمًا مع العنوان، فالشخصيات تقابل ألوان الطيف السبعة، وكل شخصية لها لون يشير إلى موقعها في السلّم الاجتماعي، فاستطاع صناعة مشهدية بصريّة، وفعلًا دراميًا يشدّ الجمهور الذي أحاط بالخشبة على شكل دائرة، ليس عليها سوى الممثلين السبعة (حاكم وزير وقائد شرطة، حارس وقاضٍ، ومواطن، ومخرج)، وقطعة ديكور واحدة متحركة هي عبارة عن صناديق تتحول إلى كرسي تارة، وتتخذ هيئات مختلفة في تارات أخرى، (صمّم سينوغرافيا العرض عبد العزيز الجميلي). وارتدى الممثلون ملابس أقرب ما تكون لملابس المهرجين، مع الاستعانة بموسيقى ذات إيقاعات سريعة تشبه موسيقى عروض السيرك، لتكتمل أركان (اللعبة)، وكان المخرج موفقًا في تسليط الإضاءة الحادة التي كانت تفتح بين مشهد وآخر على الجمهور، كلّما تشتدّ العتمة المحيطة بالخشبة، في إشارة إلى الفساد المستشري في الحدث الذي يدور على الخشبة، وغياب العدالة، بقصد إيقاظه من حالة السكون، وإشغال التفكير، وفق المنهج البريختي، فقاطع الجمهور الممثلين مرات عدة بالتصفيق في عرض قدّمه طلبة يمتلكون قدرات أدائية تستحق الإشادة.