هوامش ومتون : غابة؟ أم مدينة فاضلة؟
عبدالرزّاق الربيعي
عندما حاولت تلخيص رواية «الغابة الفاضلة» للكاتب عادل المعولي الصادرة عن دار (نثر) بمسقط، واجهتني صعوبة بالغة، ربما لكثرة شخصياتها، وتشعّب أحداثها، وكذلك غلّف الإطار الفكري الأحداث، وجعله يمتصّ الكثير من نموّها، فارتفعت لغةُ الفكر على لغة السرد، وتبعا لهذا يمكن لنا أن نضع «الغابة الفاضلة» في خانة الروايات الفلسفيّة، فمنذ الصفحات الأولى تلفت انتباه القارئ الصياغات اللغويّة التي تكشف عن خلفيّة استمدّ الكاتب بريقها من قراءاته في تراثنا الأدبي، والفلسفي، جنبا إلى جنب مع الأفكار، ولا نستغرب ذلك، فللمعولي اشتغالات فكرية، وسبق له أن أصدر أكثر من كتاب من بينها، كتابه الفكري «لماذا تقدّم العلم وتأخّر الوعي؟» ونال عنه جائزة الإصدار الفكري في مسابقة الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء 2016.
ولو ألقينا نظرة خاطفة على غلاف الرواية كعتبة أولى لرأينا صورة لحيوانات في غابة، لكن تلك الغابة التي ترسّخت في الذهن الجمعي كساحة صراعات، وتناحر وحشي، تكسر حدّتها الكلمة الثانية (الفاضلة)، وتعمل اهتزازا في أفق التوقّع، وتفتح لنا بابا للدخول في عالم رواية مكتوبة على ألسنة الحيوانات، على غرار (كليلة ودمنة) لابن المقفع، و(حديقة الحيوان) لجورج أورويل التي نشرت في إنجلترا عام 1945، والمعروف أنّ اورويل لجأ لهذه التقنية لتجنّب الصدام مع الرقابة عند إسقاطاته على الأحداث التي سبقت عهد ستالين، وخلاله، قبل الحرب العالمية الثانية، وهذا جعلني أتساءل عن سبب لجوء المعولي لهذه التقنية؟ هل هي محاولة لإحياء نوع من الأدب اختفى، ولم نعد نرى له وجودا إلّا في أدب الأطفال؟ أم لأنّ عالم الحيوانات يمنح الكاتب حرّية أوسع في التعبير؟ لاسيّما أنّ المعولي أشار في حديث لي معه، إلى وجود ما هو أخطر من الرقابة الرسميّة، وهي المجتمعيّة، التي تجعل الفلاسفة يبتعدون عن الواقع بدرجات لتجنّب صدامات كالتي حصلت لسقراط، وابن رشد وسواهما من الفلاسفة، والمفكّرين الذين حوربوا، وحوربت أفكارهم، ومن هنا، فقوّة الرواية تكمن «في انحيازها للأفكار، وجمالها باعتبارها نصا أدبيا لافتا يتقاطع مع تلك الرغبة الصادقة في أن يبني الحيوان غابته الفاضلة» كما يقول الناشر على الغلاف الأخير، وبذلك، فعنوان الرواية يحاكي مدن الفلاسفة الفاضلة، ومن بينها جمهورية أفلاطون، الغارقة بالمثالية بينما أراد المعولي أن تكون غابته واقعية، فهي تتكلم عن صراع شريحتين، هما: الضواري، والكواسر، وفي المقابل تقف شريحة ذوات الحافر، والمنقار، ويقدّمّ ذوو الحافر عريضة إلى أبي الزعفران لوضع الأمور في نصابها، تحقيقا لطموحها بغابة أكثر عدالة، لعلها تجد لدى الأسد مكانا، وهناك ميمون القردوح، القرد الذي يعدّ من أعلى فصيلة القردة، وهو ذو شخصية حكيمة، ومتّزنة، غير مندفعة، والهدهد الحكيم الذي ورد ذكره في قصة النبي سليمان في التراث الإسلامي، والنسر الذي يذكّرنا بقصة النسور السبعة للقمان، والثعلب المعروف بالمكر، والخداع.
وقد رسم الكاتب الشخصيات منطلقا من خلفيّات تراثية، وثقافية، وعلمية، وقد فصّلها في الصفحة الثامنة من الرواية، ذاكرا أوصافها، والمسؤوليات الموكّلة إليها، كما اعتدنا أن نرى ذلك في كتب النصوص المسرحيّة، لكي نأخذ فكرة عن الأجواء، ونتعرّف على الشخصيات التي حملت تسميات، ومهامّا تحيلنا لكتب التراث، والسرديّات الشعبية، وهي: الضبع الضاري ذو المخلب، ووظيفته رئيس تشريفات العرين، أمّا الذئب الفاتك ذو الناب، فهو المسؤول عن شؤون الطرائد الحيّة، والشرس ابن آوى النهاش المسؤول عن شؤون الجيف الخاصة، وبالنسبة للرحى تمساح، فهو مسؤول عن شؤون البرك، والمستنقعات، فيما يشغل الكلب أبو البراثن مسؤوليّة ضابط إيقاع أمن الغابة، وقامع الشغب، ويحمل البطريق الصقر الضرير صفة عظيم العمامة، أمّا الكاسر لقمان النسر، فهو مستشار الواقع، والتاريخ، ويقوم الغراب أبو دليل بمهمّة أمين عام الرؤية، ويعمل الثعلب بمهمّة القاضي بما حكم العقل والرأي، ويحتلّ مالك الحزين موقع سفير العرين تحت العادة، وتتولّى الحرباء ألوان أم براقش مسؤوليّة قائد جهاز استراق السمع والتحسس، فيما اللبوة البيضاء، ذات الغنج والدلال، ويتولّى القرد قشمرة العيّار وظيفة بهلول العرين، وبسبب جنوح الكاتب للفكر، وتأثره بقراءاته الفلسفية، فإنه جعل الحوار متسيّدا، على طريقة محاورات أفلاطون، والفلاسفة القدماء، وجاء ذلك على حساب الوصف، وأحيانا على حساب السرد، وهذا أمر طبيعي في نص روائي يحمل رسائل، وأطروحات فكريّة، لكنّه جعل الغابة مسرحا لأحداث روايته التي تدعو للفضيلة، والتسامح، والتعايش السلمي، وإعلاء صوت العقل، وتنشيط الحوار، وما أجملها من قيم، وإن خرجت من قلب الغابة!