هوامش... ومتون :عندما في العُلى..عبق الطين

30 يونيو 2021
30 يونيو 2021

شغلت قصة الخليقة أذهان، وعقول الأدباء ، والمفكّرين، وقبل ذلك، ورد ذكرها في الديانتين: اليهودية، والمسيحية، وتنطلق القصة من سؤال أزلي شغل الإنسان منذ أن أدرك وجوده على الأرض هو: كيف بدأت الخليقة؟

ولعل أقدم ما وصل إلينا، بهذا الخصوص، نصّ شعري جرى تأليفه قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، مكتوب باللغة الأكدية، والخط المسماري، وبه عرض لمعتقدات إنسان وادي الرافدين القديمة عن نشأة الكون، والخليقة، ويعتبره المختصّون، مع ملحمة جلجامش أقدم، وأجمل نصّين وصلا إلينا من الأدب القديم، وقد وُجد، هذا النصّ الشعري، على هيئة سبعة ألواح من الطين تمّ العثور على كسرها في المواقع الأثرية التي تضمّ بقايا المدن القديمة: نينوى وآشور في شمال العراق، كيش وأوروك في جنوب العراق، وخوزيرينا في جنوب تركيا، وعُرف باسم «أسطورة الخليقة البابلية»

وقد استلهم منه الكثير من الشعراء قصائدهم، ومن بينهم الشاعر الراحل سعدي يوسف الذي كتب مسرحية شعرية حملت عنوان (عندما في الأعالي) صدرت عام ١٩٨٩ببيروت.

ومؤخرا صدر كتاب جديد لعالم الآثار، واللغات القديمة د.نائل حنون حمل عنوان «أسطورة الخليقة البابلية-النص المسماري الشعري»، وذلك عن (المركز الأكاديمي للأبحاث، العراق – تورونتو، كندا – بيروت، 2021م).

أوّل ما يلفت أنظارنا عنوان النص الذي وضعه العلماء المحدثون تمييزاً له عن قصة الخليقة المذكورة في سفر التكوين في العهد القديم، بينما العنوان الأصلي، كما يشير د.نائل هو «أينُما أيليش» الذي يعني في اللغة الأكدية «حينما في العُلى»، وينفتح العنوان على صراع في مركز الخلق الذي يكون في المتخيّل في الأعلى، حيث العلوّ، والرفعة، وبه يكون تقدير مصائر الخلائق.

يبتدئ الكتاب الذي جاء بـ343 صفحة، بتمهيد يعرض فيه المؤلف أهمية الأدب في حضارة وادي الرافدين القديمة، وهي أهميّة رأيناها واضحة في ما ترك سكّان وادي الرافدين من مدوّنات، وملاحم، ويقدّم معلومات مهمّة عن عدد النصوص المكتشفة منه التي بلغت 287 نصاً وإحدى عشرة مجموعة أدبية في تسعة أبواب، وهذه الأبواب هي: الأدب الروائي (الأساطير والملاحم والسير الأسطورية)، التراتيل، والابتهالات، المرثيات، الرسائل الأدبية، المناظرات، والحوارات، أدب الحكمة، أدب السحر، الأدب الساخر، والهجاء، والأدب المتنوع، وجميع نصوص هذا الأدب مدوّنة بالخطّ المسماري، ولكون حضارة وادي الرافدين القديمة ثنائية اللغة، فقد جاء بعض هذه النصوص باللغة السومرية، وبعضها الآخر بالأكدية، ويبلغ عدد النصوص السومرية 106 وثماني مجموعات أدبية. أما النصوص الأكدية، فيبلغ عددها 181 نصاً وثلاث مجموعات أدبية. وقد سبق للمؤلف أن عرض معلومات مفصلة عن كلّ واحد من هذه النصوص في كتابه «حقيقة السومريين ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية»، الصادر في دمشق، 2007م، كما يعرض المؤلف في مقدمة الكتاب التذييلات التي ألحقت ببعض ألواح النص المسماري، التي تقابل الهوامش حسب ما متعارف عليه البوم، مشيرا أن هذه التذييلات من الممارسات الكتابية المهمة في نصوص الحضارة القديمة. ثم يقدم ملخصاً سردياً لمضمون كل لوح قبل أن يقدّم الاستنساخ المسماري للألواح السبعة التي يتألف منها النص، وقراءة مقاطعه اللفظية بالحرف العربي، ثم الترجمة العربية الدقيقة وبحسب الأبيات الشعرية بشطري كلّ منها، وفي نهاية ترجمة كل لوح يورد التعقيبات التي تشرح الإشكاليات اللغوية، وتفسير التراكيب المعقدة، ويقدّم فهرساً بالأسماء الواردة في النص كله مع شرحها، وإدراج مواردها، يعقبها بقائمة العلامات المسمارية المستعملة في النص، وألفاظها. وينتهي الكتاب بمسرد خاص بالأفعال الواردة في النص، وعددها 388 فعلاً، وتصريف كلّ منها بحسب الألواح، والأبيات مع الإشارة إلى ما يشترك منها مع الأفعال العربية لفظاُ، ومعنى.

مما يُحسب للدكتور نائل حنّون الذي نشر على مدى خمسين عاما، ما يزيد على سبعين بحثاً ودراسة في الدوريات العلمية والموسوعات، وأكثر من عشرين كتابا، أنه نهج في كتبه برحلته مع اللغات القديمة، والنصوص المسمارية تقديم القراءات، والترجمات العربية المباشرة من الأصول المسمارية. ولم يسبق، كما يكشف في التمهيد، أن قُدّمت ترجمة عربية مباشرة للنصوص المسمارية الأدبية، والتاريخية، والقوانين، ومن ضمنها (ملحمة جلجامش)، ونصوص ملوك بلاد الرافدين، وشريعة حمورابي وهذه الأسطورة أيضاً، أما ما كان ينشر سابقاً من ترجمات لهذه النصوص، فهي ترجمات من اللغات الأوروبية الحديثة، أو ملخصات من تلك الترجمات، ولهذا جاءت (أسطورة الخليقة البابلية) تحمل عبق الألواح الطينية، وغرين طين الرافدين.