هوامش ومتون :طعنة سودانيّة في قلب الفيتوري
في الخامس عشر من عام 1981م صحونا على خبر مؤلم، عدّ حلقة في سلسلة الحرب الأهلية اللبنانية هو تفجير السفارة العراقية ببيروت، وكان يمكن للخبر أن ينتهي عند بيانات الشجب والاستنكار، وتعزية ذوي الضحايا الأبرياء الذين سقطوا في التفجير، لكنه لم يقف عند هذا الحدّ، بل صار تاريخا، وقصيدة، وحكاية حب مذبوح، فالدبلوماسيّة العراقية بلقيس الراوي زوجة الشاعر نزار قباني كانت من بين ضحاياه، ولم تكن بلقيس زوجة تقليدية، بل كانت ملهمة قبّاني، وحبيبته، وقصيدته، وهي «الصديقة والرفيقة والرقيقة مثل زهرة أقحوان» التي قال فيها:
أيقظتني بلقيس في زرقة الفجر
وغنّت من العراق مقاما
أرسلت شعرها كنهر ديالى
أرأيتم شَعرا يقول كلاما
كان في صوتها الرصافة والكرخ
وشمس وحنطة وخزامى
فدخل الشاعر نزار قباني في دوامة حزن أسفر عن قصيدته الطويلة «بلقيس» التي يقول في مطلعها:
شكرا لكم
شكرا لكم
فحبيبتي قُتلت وصار بوسعكم
أن تشربوا كأسا على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت
وهل من أمّة في الأرض
إلّا نحن نغتال القصيدة؟
تذكّرت هذا الحادث الإجرامي، وأنا أقرأ خبر مصرع أرملة الشاعر السوداني محمد الفيتوري رائدة المسرح السوداني، الفنانة (آسيا عبدالماجد) في الصراع المسلح الدائر بالعاصمة الخرطوم فذهبت ضحية الاشتباكات الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بعد سقوط قذائف على منزلها، لتدفن داخل مدرستها (مؤسسة أم إيهاب للتربية والتنشئة الاجتماعية)، كما نقلت وكالات الأنباء «لتعسر الدفن وسط هدير الطائرات الحربية والمضادات الجوية والتراشق بالأسلحة المختلفة».
ورغم أنّ علاقة الفيتوري بممثلة السودان الأولى، كما تطلق عليها الصحافة، انتهت بالانفصال، لكنها أم ولده (إيهاب) وابنته (سولارا) وقد جمعهما الشعر والمسرح، والسودان، وكان قد التقى بها عام 1962 م في حفل تخرّجها من كلية المعلمات، فأعجب بها، وأحبّها، وهو العاشق، بل «سلطان العشّاق» كما يقول في قصيدته «معزوفة درويش متجول» التي لحّنت وغنّيت وردّد كلماتها الجمهور العريض:
في حضرة من أهوى
عبثت بي الأشواق
حدّقت بلا وجه
ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي
وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي
وفنائي استغراق
مملوكك لكني
سلطان العشاق
فارتبط بها بعد انفصاله عن زوجته الأولى الفلسطينية التي كانت تقيم في القاهرة، واستمرت علاقتهما سنوات، ولم يقطعها الانفصال، فهو الذي أعجبت به شاعرا قبل أن يكون زوجا، وهو والد (إيهاب)، و(سولارا)، ثمرتي الزواج، وهي الفنانة المعروفة والتربوية القديرة، وخارج ذلك جمعتهما العشرة والحياة المشتركة.
ووجه الشبه بين الحادثتين كبير، فنزار قباني والفيتوري شاعران عربيان كبيران، والفارق أن الشاعر نزار قباني امتدّ به العمر ليشهد هذه الجريمة فرثى (بلقيس) بتلك القصيدة التي تعدّ من أوجع، وأروع ما كتب الشعراء في رثاء زوجاتهم، لكن القدر لم يمهل الفيتوري الذي رحل في الرباط عام 2015م، ولنا أن نتخيّل لو كان الفيتوري على قيد الشعر والحياة، كيف سيرثيها؟
حتما سيقول معنى مشابها لما قال نزار قباني فكلتا الزوجتين لقيتا مصرعهما في حادثين إجراميين، ونزاعات داخلية، بتحريك من أطراف خارجيّة عدّة، ويردّد ما قال زميله قبّاني في مرثيّته (بلقيس):
إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب
ويأكل لحمنا عرب
ويبقر بطننا عرب
فكيف نفر من هذا القضاء؟
إن فجّروك فعندنا
كل الجنائز تبتدي في كربلاء
هل يولد الشعراء من رحم الشقاء؟
وهل القصيدة طعنة
في القلب ليس لها شفاء؟
إن رحيل الفنانة آسيا، التي تعدّ أول فتاة سودانية تقف على خشبة المسرح، ولها أعمال عديدة قدّمتها على خشبات مسارح القاهرة والخرطوم، أقول: إن رحيلها في دوّامة حروب (الأخوة الأعداء) والاقتتال العبثي الدائر في السودان، ليس سوى طعنة في قلب المسرح السوداني والعربي، بل وقلب الفيتوري.