هوامش ومتون : صوتٌ يخترق الأزمنة

31 ديسمبر 2021
31 ديسمبر 2021

في أمسية نظّمتها الدار اليمنية للتراث والكتاب في القاهرة، وأدارها الكاتب محمد سبأ، احتفاء باليوم العالمي للغة العربيّة، قفز فجأة اسم الشاعر بدر شاكر السيّاب، الذي توفي في 24ديسمبر1964، وتزامنت الأمسية مع ذكرى رحيله، فانتبهت إلى مسألة، أنّ مناسبات رحيل الكثير من الشعراء العرب عن عالمنا تمرّ دون أن ينتبه أحد سوى المعنيّين، وقلّة نرى اهتماما بها من قبل أصدقائهم، ومحبيهم، لعلّ من بينهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الذي غادر عالمنا في 27 يوليو 1997 و محمود دويش في أغسطس 2008 م، وعبدالرزاق عبدالواحد في 8 نوفمبر 2015م، وصار من المعتاد أن الاهتمام يتراجع سنة بعد أخرى، برحيل المحبّين، وتقادم المناسبات، وتبدّل اهتمامات الناس، لكنّ المدهش كلّما تقترب ذكرى رحيل الشاعر الرائد بدر شاكر السياب، تنشغل الأوساط الثقافية بالمناسبة، لتقيم احتفالاتها، فتفرد الصفحات الثقافية مساحات لاقتفاء الأثر الذي تركه هذا الشاعر الذي يعدّ رائد القصيدة العربيّة الحديثة، لتأكيد المكانة المتميّزة التي يحتلّها هذا الشاعر الكبير، وهذه الاحتفالات لا تقتصر على العراق، بل في الدول العربية، ففي عام2004قدّم المخرج د. جواد الأسدي على مسرح حصن الفليج عرضا بالذكرى الأربعين لرحيله، وكان من إعداده، وإخراجه، وأدائه بمصاحبة المطربة اللبنانية جاهدة وهبه، وتمثيل: مريم علي، ونادين جمعة، حمل عنوان ( أنشودة المطر )، قصيدة السيّاب الأشهر، وقبل ذلك قدّم المخرج الراحل كريم جثير في صنعاء عام 1996 في مركز الدراسات والبحوث اليمني، ولم تجرِ الأمور كما يحبّ المخرج، فبعد ظهور الروسيّة سلمى الظاهري، على المسرح، لتقديم فقرتها عبر أداء حركي ثارت ثائرة بعض المتشدّدين، وطالبوا بإيقاف العرض، ولم يكن أمام الظاهري سوى الاختباء خلف لوحة تعبيرية بحجم كبير للسياب كانت تتوسّط المسرح، رسمها الفنان موفق أحمد، واستمر العرض إلى نهايته، مثلما ظلّ صوت السياب يصيح بالخليج:

" يا خليج

يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى

فيرجع الصدى

كأنّه النشيج

ياخليج

يا واهب المحار والردى"

وجاء الاحتفاء بذكرى السيّاب العام الماضي بنكهة مختلفة، فقد توّج بصدور أعماله الشعريّة الكاملة، التي حقّقها الشاعر علي محمود خضير، وصدرت عن دار الرافدين بمقدّمة لأدونيس، وهي الطبعة التي وصف د. حمزة عليوي تحقيقها بأنّه " مهني محايد، حاول محقِّقه أن ينأى بنفسه وعمله عما يثير اللبس، ويفتح شهية الاختلاف على ما أنجزه. وهي مأثرة تستحق الإشادة، مثلما تستحق صنعة علي محمود خضير نقاشاً علمياً أكثر تخصصاً وفائدة. أقصى ما تحدث عنه المحقِّق، في سياق مهنيته، أن كتب عن (تباين) القصيدة، واختلاف طبعاتها، وركَّز على تفاصيل عمله المهني المحايد"، وفي جلسة تدشين الكتاب التي أقامها نادي الوتريات في الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العراقيين عبر الفضاء الافتراضي، بحضور نجله المهندس غيلان السيّاب، ومحقّق الكتاب، وناشره، ونخبة من الباحثين، والأكاديميين، والمهتمين، قلت: لو أمدّ الله بعمر الشاعر الرائد بدر شاكر السياب لاحتفلنا هذا العام بميلاده الرابع، والتسعين، لكنّ إرادةَ الله أخذته من آلامه وأسقامه، إلى نعيم جواره، وذلك قبل ٥٦ سنة، وما بين ذلك عمر قصير( ٣٨) سنة عاشه السيّاب على الورق، وفي المكتبات، متنقلا ما بين المستشفيات، لكنّه كان طويلا بعمر الابداع، لذا وجب عليّ، في تلك الجلسة، أن أبارك للصديق الأستاذ غيلان بالولادة الجديدة للسياب قبل أن أعزّيه بفقده، مردّدا قول السياب في أيّامه الأخيرة:

"إن مت يا وطني

فقبر في مقابرك الكئيبة أقصى منايو إن سلمت فإن كوخا في الحقول هو ما أريد من الحياة فدى صحاراك الرحيبة أرباض لندن ولدروبو لا أصابتك المصيبة"

وكم كانت سعادتي كبيرة، عندما شرّفني بتسلّم درعه في مهرجان الشعر العربي الذي أقيم في استانبول، بعد أن تعذّر عليه ذلك بسبب عارض صحّي.

واليوم وأنا أمضي الأيّام الأخيرة من العام الجاري في القاهرة، تمرّ ذكرى رحيل السيّاب، وأرى الذكرى من نافذة مفتوحة على الثقافة العربية، من خلال ما نشرته الصحف، وما ردّدته الإذاعات، والجلسات الأدبيّة، ومنها جلسة لصالون (ابن ماجد) الثقافي الذي أقامه سعادة عبدالله الرحبي سفير السلطنة في مصر جمعتنا في مقرّ السفارة العمانيّة، لقد حلم السيّاب بكوخ، فنال قصرا في عالم الخلود، وقلوب محبّيه الذين مازالوا كلّما سافروا للبصرة يتوجهون صوب تمثاله، على "العشّار" وقريته "جيكور" ليقفوا على ضفاف نهر الشاعر الحزين "بويب"، مردّدين:

"أجراس برج ضاع في قرارة البحر...الماء في الجرار والغروب في الشجر وتنضح الجرار أجراسا من المطر بلورها يذوب في حنين بويب يا بويب يا نهري الحزين كالمطر..."

ويبقى صوت الشاعر الخالد يخترق الأزمنة، وصوت السيّاب شاهد على ذلك.