هوامش ومتون: "شقشقة" عصفورة فيروز
إذا كان صوت الطيور في الصباح، من معاني مفردة "شقشقة" في قاموس معاجم اللغة العربية، كقولنا شقشقة عصافير، ومنها زقزقة العصافير عندما يرتفع صوتها، فمن جانب آخر، فـ"شقشقة اللسان تعني: ثرثرته، والكلام الذي لا طائل تحته، ولنأخذ المعنى الأوّل، ونبدأ مع تغريد الطيور في الصباح، الذي يرتبط لدينا، بصوت فيروز، والأغنية الرحبانيّة، لعقود طويلة، فحفظناها، واستقرّت في وجداننا الجمعي، مع معرفتنا أن عطاء فيروز والأخوين رحباني تجاوز الأغنية، فللثلاثة إسهامات كبيرة في المسرح الغنائي، ولهم فضل ابتكار منطقة وسطى بين الأوبرا والأوبريت، وقد زادت أعمالهم على خمس وعشرين مسرحيّة، وثلاثة أفلام سينمائيّة هي "بيّاع الخواتم"، و"سفر برلك"، و"بنت الحارس"، والعديد من الأعمال التلفزيونيّة، وظلّت تجربتهم متفرّدة في الساحة الغنائيّة العربيّة، ليس فقط من حيث التأثير الفني، بل حتى من حيث الانسجام العائلي، والاجتماعي، فمَنْ يقبل من الشعراء شريكًا يقاسمه مجد الشعر، متنازلًا عن اسمه حتى لو كان أخًا له؟ وهو الأمر الذي جعل الشاعر محمد علي شمس الدين يتساءل: "كيف في الإمكان التشارك في كتابة قصيدة، أو نص مسرحي؟ لأن في الشعر، وفي التأليف الإبداعي على العموم فرديّة، وخصوصيّة، وأسرار يخفي بعضُها حتى على أصحابها"؟ وهذا التساؤل يعبّر عن فرادة الحالة التي لا نجد لها شبيهًا في تراثنا الأدبي، والفكري سوى في"جماعة أخوان الصفا" التي ظهرت في البصرة في القرن الرابع الهجري وتركت 52 رسالة في الفلسفة، ولا نعرف لليوم هوياتهم، ولا أسماءهم، فأصبحوا لغزًا، في التعريف بهم يقول أبو حيان التوحيدي "عصابة قد تآلفت بالعِشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس، والطهارة، والنصيحة"، ولولا تلك الصفات لما تآلفوا، واجتمعوا، فكريًّا.
لهذا تألّمت كثيرًا عندما قرأت حوارًا مع المخرجة ريما الرحباني نشر مؤخرًا في "المجلة" كشفت به عن خلافات بين عائلتها، وعائلة عمّها الراحل منصور الرحباني، وفصّلت في ذكر الخلافات، وأبانت عن المستور، ولا توجد عائلة ليس بين أفرادها خلافات، وفي النهاية نحن بشر، نخطئ ونصيب، غير أنّ الصورة الذهنية المرسومة للفنان تختلف، فهو الأكثر رهافة وحساسية، والمثال للجميع، لذا أصابت ريما بهجة صباحاتنا بمقتل!
والغريب أنّها، نسيت هذا، وهي فنّانة ومخرجة، وذهبت بعيدًا، فذكرت تهديدات، ودسائس نسبتها إلى عمّها، وحتى العلاقة الأخويّة التي ربطت أشهر أخوين في الأغنية العربية، تكلّمت عنها بالسوء، فقالت أن والدها" دخل المستشفى لمدة ستة أشهر، زاره خلالها منصور ثلاث مرات، وأنّه سرب للإعلام أن عاصي رحل، ولم يكن معه سوى العاملة السريلانكية"!
وبالطبع، أخبار الخلافات بين ورثة الأغنية الفيروزية، لم تكن خافية، عن وسائل الإعلام حتّى إنّني حين التقيت أولاد منصور "مروان وأسامة وغدي" قبل حفلهم الذي أحيوه بدار الأوبرا السلطانية، في منتصف أبريل 2014 م، فالسؤال الذي كان يشغلني هو العلاقة التي ربطت الأخوين: عاصي، ومنصور، وخصوصًا المشاركة في كتابة الشعر وتقاسم مجده، فوصف مروان تلك العلاقة بـأنّها "حالة لن تتكرّر، ولا يوجد لهما شبيه، في نكران الذات، فكلّ إنسان يحاول أن يضع اسمه على نتاجه الفكري والفنّي ويظهر عمله، وتميّزه، أمّا في حالة الأخوين رحباني فنجد الحالة مختلفة، فقد حذفا اسميهما، وأبقيا على "الأخوين رحباني"، وكانا يمضيان معًا كلّ الوقت، يفكّران معًا ويكتبان، ويضعان الألحان، حتى إنّنا، -والكلام لمروان- أبناء منصور لم نكن نرى والدنا، فطوال الوقت كان مع عاصي، وقد أصدرا عام 1952 في دمشق مجموعة شعريّة هي "سمراء مها"، وحين سألته عن طبيعة الخلافات أجاب" هذا الخلاف ضخّمته وسائل الإعلام، بعد أن نشأ على خلفية مشاكل عالقة بيننا، وبين وريثتي عمّنا عاصي، أرملته السيدة فيروز، وابنتها ريما، ومعظم الذين تحدثوا في الموضوع لا يعرفون أسباب الخلاف، الذي ظهر لوسائل الإعلام، ونحن شخصيّات عامّة، وقد أصدرنا بيانًا في منتصف عام 2010 م وضّحنا فيه كلّ تلك التفاصيل، وحول علاقتهم بابن عمّهم زياد الرحباني، أكّد مروان أنهم على تواصل يومي معه، وبينهم أعمال مشتركة، وكم كانت سعادتي كبيرة، بسماع هذا الكلام، مثلما أحزنتني تصريحات ريما التي أتمنّى أن تكون مجرد "شقشقة" صدرت عن عصفورة فيروز.