هوامش ومتون : شعرٌ عُمانيٌّ غير مسبوق
لم تثنِ قلّةُ الدراسات التطبيقية في شعر السلوك العماني همّة د.عادل بن راشد المطاعني، ولم تضعف عزيمته، بل دفعته لبذل المزيد من الجهود لدراسته، وأسفر هذا الجهد عن كتاب حمل عنوان "الشعر السلوكي العماني" صدر في مسقط، وشعر السلوك ديني، فالسلوك هو "السيرة والمذهب والاتجاه، ويأتي بمعنى النفاذ في طريق الحق، قال تعالى: "لتسلكوا منها سبلا فجاجا" فالمدرسة السلوكية تعنى بسلوك الأشخاص سلوكا إسلاميا صحيحا وفق المنهج الإسلامي، وهي بمثابة تذكير ورجوع بالناس إلى المنهل الصافي، شروطها (الصيام، الخلوة، الدعاء، وتخير الأوقات)" كما يقول الباحث الذي يؤكّد أن جذوره تعود إلى الشراة، وهم الرعيل الأول من الأباضية، فهو "شعر عماني خالص، غير مسبوق من طرف أي من الشعراء العرب وحتى الشعراء العمانيين أنفسهم قبل القرن الثاني عشر الهجري" وهو شعر ديني، تنوعت أغراضه بين المديح النبوي، والنصح، والوعظ، والدعاء، والزهد، والحث على التدبر في أمور الدنيا.
وحول اتفاقه مع شعر التصوف فهو اتفاق وارد، كما يرى، لكن الاختلاف عن التصوف الذي شطح شعراؤه إلى الحلول والاتحاد وخالطت شعرهم أفكار فلسفية بينما السلوك العماني لا يدعو إلى الابتعاد عن الدنيا والناس فقد كان شعراء السلوك يعملون في سلك القضاء والتعليم، ولهم أسر وأولاد، ولم يبتعدوا عن الحياة العامة، ولم يسكنوا الكهوف والمغارات، وامتد الاختلاف ليشمل البناء الفني واللغة، ومع إقرار الباحث بأن التجربة الشعرية السلوكية أفادت من التجربة الصوفية لكنها رسمت لنفسها حد الاستقلال كتجربة مستقلة عن الصوفية"
وقد برز عدد من الشعراء العمانيين الذين اشتهروا بشعر السلوك ومن بينهم: الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، والشيخ أبو مسلم البهلاني، وقد أفرد المطاعني لشعر الثلاثة فصلا، ومن شعر جاعد بن خميس يتوقف أمام قوله:
قدحت زنادا أستضيء بنوره
ألباب كل العارفين وتشرق
قطنت بأسرار لهم في سرهم
يحلو صدى الأهواء لما ترهق
قهرت زمام النفس عن سبل الهوى
وبنارها الشيطان صار تحرق
قرحت غرائمها خنادق برها
وجنودها بهم تحوط وتحدق
وكما نرى تخير الألفاظ وإلزام الشاعر نفسه بوضع حرف القاف في بداية كل بيت ونهايته، وهذا لا يأتي من باب إظهار المهارات الفنية، بل قصد إلى ماهو أبعد كعادة السلوكيين، الذين بحثوا في المعاني الخفية لكل حرف من الحروف، وللحروف أسرار، وحرف القاف تحديدا، ابتدأ به عدد من أسمائه الحسنى" قادر، قوي، قهار" يقول ابن عربي" القاف هي داعية نزلها الله تعالى من القدرة إلى القلوب في القرآن" وله أيضا" القاف آخره حار يابس وسائره بارد رطب"
ويتوجه الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي في شعره السلوكي إلى الخالق تقربا وطمعا في كسب رضاه:
فوجّهت وجهي تاركا كل مظهر
إلى المظهر الأعلى صرفت عناني
وخلفت كل الكائنات ترقيا
فعاينت نور الحق نصب عياني
فلم أر نفسي إذ شهدت ظهوره
وأين الدجى قد أشرق القمران؟
وفي مطوّلته الشعرية التي تجاوزت الألف بيت يضمّن الشاعر أبو مسلم البهلاني أسماء الله الحسنى:
بأسمائك الحسنى تقرّبت سيدي
إليك مجدا في هتافي وقربتي
جعلت سمير الطبع ترتيل ذكرها
لوجهك ربي خلوة بعد خلوة
بحقك أمطرني سحائب سرها
بما خص كلا من كمال وقوة
ورغم الجهود المبذولة، يحتاج الشعر السلوكي إلى دراسات جديدة، يقول الدكتور عبدالمجيد بنجلالي: "إن الجهاز المفاهيمي المرتبط بتفكيك وبناء هذا النمط من الشعر مستعصيا، فالفهم اللغوي قد لا يسعف أحيانا في الوصول بالمتلقي إلى ما يريده، فإخراج النص السلوكي من الإبهام والغموض والإيهام يحتاج إلى تأويل ميتافيزيقي أو تفسير إشاري" وهذا ما أشار إليه الدكتور وليد محمود خالص خلال مشاركته في ندوة الشيخ عبدالله الخليلي التي أقامها النادي الثقافي مؤكدا دعوة وجهها خلال عمله بجامعة السلطان قابوس قبل سنوات تكمن في تحرير معجم مصطلحات السلوك العماني، لإبراز خصوصيّة السلوك العُماني بشكل خاص، وقطع دابر الاختلاف بشكل علمي، وموضوعي بين السلوك والتصوف والعرفان، لأن هذه المصطلحات تُستخدم عند هؤلاء الثلاثة، لكن معانيها، ودلالاتها مختلفة، وهنا تكمن المشكلة، وجهد كهذا يحتاج فريقا من الباحثين، علما أن "أول من اهتم بإعادة تحقيق معاجم المصطلحات الصوفية في العصر الحديث هم المستشرقون "كما يذكر المطاعني، وحين يتصدى جيل من الباحثين الشباب لوضع المصطلحات السلوكية ففي هذا العمل دقة أكبر فـ(أهل مكة أدرى بشعابها)، وعلى هؤلاء الشباب نعقد الأمل.