هوامش ومتون :سليلُ «سلالة السنديان»

06 ديسمبر 2023
06 ديسمبر 2023

لسبب ما، أصرّ د. إبراهيم السعافين على اختتام أمسية تكريم النادي الثقافي له باعتباره الشخصية الثقافية العربية لعام 2023م بإلقاء قصيدته «الشمس التائهة»، وما إن ألقى المقطع الأول، اتّضح السبب:

قالوا: كانت أكبرَ

من كلّ الأرضْ

تمتدّ على غرب الدّنْيا

وتفيض ُعلى الشّرقْ

بالطّولِ وبالعرْض

يحرسُها اللّه

وتحرس أحلام النّاسْ

فقد أراد لفلسطين التي غادرها محمولا على أكتاف والده عام 1948م، أن تكون حاضرة في المكان والزمان المناسبين، مثلما حضرت في كلمته التي ألقاها في حفل تسليمه جائزة الملك فيصل العالمية في الرياض عام 2001م، كما أشار في سيرته الذاتية (سليل السنديان) فتكريمه هو تكريم لقطب من أقطاب الثقافة الفلسطينيّة، والقضية التي شغلته، وشكّلت همّا مركزيّا نجده في شعره، وكتاباته، ورواياته، وحين انتقل للمقطع الثاني في القصيدة التي يعود تاريخ كتابتها إلى 2019م، أطلت (غزّة) برأسها طغت على صوته حشرجة، بدأت تتسع حتى غاب صوته، واغرورقت عيناه بالدموع، وهو يتساءل:

غزّة في سفر الرحّالةِ أكبرُ منْ

كلّ الدّنْيا

فلماذا يجتمع عليها الشرُّ

وكلُّ حثالات الأشرارِ

يُرُهقها الظلم ويوجعها الفقرُ

وتشقى في الحرّ وفي القرّ

ولكن لا تحني الهامة

ويظلّ الغزيُّ شديد الباسْ

هذا هو الدكتور إبراهيم السعافين كأنه لم يغادر فلسطين ولم يكبر رغم بلوغه الثمانين، وقبل أربعة أشهر زار قريته (الفالوجة)،الواقعة بين الخليل وغزّة، وينسب اسمها إلى شيخ من شيوخ الصوفية هو شهاب الدين الفالوجي، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، واختلطت في رأسه الأفكار، وامتزج الواقع بالخيال، وكما توقّع في (سلالة السنديان) حين قال «خرجتُ طفلا من بيتي، وإن قدّر الله لي العودة في هذه الشيخوخة، فسأقف على الأطلال، لأن الجرافات دمّرته ودمّرت البلدة منذ اليوم الأول لخروجنا الكبير، مثلما دمّرت هي نفسها بيتنا المؤقت في الكرامة، التي شهدت زهرة طفولتي وبداية شبابي»، لكن الجرّافات لم تجرف عزيمة الإنسان، ويكفي السعافين فخرا أن الطفل الصغير الذي غادر المكان قبل (75) سنة، ولم يكن يملك شهادة ميلاد، فاضطر أن يدخل المدرسة بشهادة ميلاد شقيقته (مريم)، عاد إليها شيخا، وعلى صدره نياشين علمية، وسيرته الذاتية، مضاءة بأكثر من (45) إصدارا في مختلف مجالات المعرفة والأدب، فهو الأكاديمي والناقد، والشاعر والروائي والمسرحي، والمثقف العضوي، الذي نال جائزة الملك فيصل عام2001م وجائزة الدولة التقديرية في الأردن عام 1993م، والعديد من التكريمات، من بينها نيله درع مهرجان جرش عام 1983م وهو المعلم الذي عمل أستاذا في الجامعة الأردنية واليرموك وجامعة الملك سعود في الرياض، وجامعة الإمارات وجامعة الشارقة، وجامعة تنيسي الأمريكية، وأشرف وناقش عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه.

فهو صلب العزيمة وكيف لا يكون كذلك وهو سليل (شجرة السنديان) المعمرة التي تنبت فوق جبال الضفة الغربية.

وفي الجلسة التي جمعت ثلاثة من الأكاديميين الذين تتلمذوا على يديه هم: د. محمود السليمي، ود. جمال مقابلة، ود. آمنة الربيع، كانت لغة الامتنان والتقدير والوفاء تلقي ظلالها على الحضور، وقد رفع ذلك من قدرهم، مثلما رفع حمل الأمين والمأمون نعلي الكسائي حين قام فاختلفا فيمن يفعل ذلك فاتفق كل منهما أن يقدم له واحدة فظن الكسائي أن ذلك أغضب الخليفة، فقال الرشيد: «لو منعتهما لعاتبتك، فإن ذلك رفع من قدرهما». ليس فقط بالنسبة لطلبته في قاعات الدرس، بل حتى في كتاباته، يرى الناقد صبحي الحديدي أن السعافين» يأخذ قارئه إلى منطق تتلمذ إرادي للتعلّم من معلّم» وبالوقت نفسه فشخصيته النقدية والأكاديمية تجعلك تشعر أنك «بحاجة إلى الاختلاف مع بعض خلاصاته التطبيقية ومهاده النظري» لذا فشخصيّته يمكن وصفها بـ(الجاذبية المربكة)، وهو معلم في الحياة، ويشهد على ذلك طلبته الذي صاروا زملاء له في الحياة، مثل د. جمال مقابلة الذي تتلمذ على يدي السعافين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه وأعدّ كتابا ضخما عنه حمل عنوان (يُشرق من كلّ أفق) صدر احتفاء بميلاده السبعين، فقال عن إبراهيم السعافين إنه «أستاذي في الجامعة ومعلمي في الحياة، فقد علمني: كيف يكون المرء ملتزما بموضوعه وملتصقا بقضايا أمّته».

والنادي الثقافي في تكريمه لواحد من رموز الثقافة العربية يكون قد كرّم المعلّم والناقد والشاعر والروائي، والمسرحي في شخص د. إبراهيم السعافين، كما كشفت الأوراق المشاركة في الندوة، ونحن في شوق لصدور كتاب يجمع تلك الأوراق القيّمة كما أكّد الصديق د. محمد بن علي البلوشي رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي، مثلما جرى مع الأوراق التي قدّمت في ندوة اختيار د. عبد العزيز المقالح الشخصيّة الثقافية العربية المكرّمة عام2021م.