هوامش ومتون :ديانة الماء.. البحث في البحر عن الحقيقة
لم أستغرب حصول الفيلم العماني (ديانة الماء) للمخرج هيثم السالمي على جائزة لجنة التحكيم بالمهرجان السينمائي للجامعة الأمريكية بالكويت، وثناء النقاد، فالفيلم الذي أنتجه صندوق الدعم السينمائي للجمعية العمانية للسينما وبطولة صالح زعل وزهى قادر بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين الشباب تتوفّر به الكثير من عناصر النجاح.
والفيلم معدٌّ عن قصة قصيرة لمخرج الفيلم بعنوان «عام الرويس»، أعاد كتابتها سينمائيا.. لم لا؟ وجان كوكتو يقول «السينما كتابة حبرها الضوء». يتحدث الفيلم الذي تدور أحداثه في قرية ساحلية عن شاب أعمى (عيسى) فقد والده في رحلة بحرية، فيحلم بركوب البحر للبحث عن أبيه، لكن والدته تمانع ذلك، فيمضي الوقت مع صديقة طفولته «زهرة» المقعدة التي تمرض لكن معتقدات العجوز (سبيت) تحول دون تمكنّه من مساعدتها حتى تموت، وبعد دفنها، تتوصل القرية إلى اللغز الذي يحيّر رجالها، بعد وقوع حوادث فقدان جثث موتى قام بنبشها رجل غريب الأطوار، كان يسرق الجثث من القبور ليقيم عليها تجارب علمية، عقد معه صداقة، لكنه يفاجأ بعد أن يكتشف أنّ آخر جثّة لـ(زهرة) ويعرف رجال القرية أمره، حين يصلون إليه ويعرف أنهم سيقتلونه يطلب من (عيسى) مغادرة المكان والذهاب إلى بحر حيث سيجد مركبا بانتظاره ليمضي في رحلة البحث عن والده، وينتهي الفيلم بلقطة على وجه أحد سكان القرية وهو يضع يده على وجهه علامة انتظار، ويحمل العنوان عدّة دلالات، فهو إشارة إلى الحياة، قال تعالى: «وجعلنا من الماء كل شيء حي» وتختلط بالمقدّس في الموروثات الدينية وجميع الديانات الإبراهيمية وسواها من الديانات ومن بينها الهندوسية التي ترى أن عناصر الطبيعة أربعة هي: الريح والنار والماء والتراب، وإضفاء قدسية على الماء، ففي الإسلام الوضوء، والمسيحية التعميد في الماء وفي المندائية النزول في الماء للتطهر، ومن المشاهد التي تعزّز هذه الطقوس التي يمارسها سكان القرية وقد اختلط فيها الغناء بالعادات التي لم تتورع من تقديم (زهرة) قربانا للبحر، فمنعوا (عيسى) من مساعدتها، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، ليبعث رسالة أن الخرافات عندما تسيطر على المجتمع تعيده للخلف إن لم يتجاوزها.
ومن المشاهد المؤثرة، حين أعلن (عيسى) لوالدته رغبته بالسفر في البحر بحثا عن والده، وضعت يده على النار، في إشارة إلى أن الحقيقة تحرق صاحبها، كما جرى من الرجل الغريب الذي أدى دوره باقتدار الفنان الكبير صالح زعل، في مشهد إمساكه الزجاجة ووضع فيها الماء والغصن الجاف، شارحا له أن الزجاجة هي الجسد والماء الدم والغصن العظم، وأنه يبحث علاقة الروح بالجسد، وهي قضية شغلت العلماء والمفكرين، وحتى الديانات لم تضع تفسيرا فالرسول (صلى الله عليه وسلم) حين سأله اليهود وهو في حرث بالمدينة متكئ على عسيب (جريد من النخل) عن الروح لم يجبهم فنزلت الآية الكريمة (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، وتعطي البنى الفرعية للأحداث مساحة للبحث عن الحقيقة، فعيسى يبحث في البحر عن حقيقة غياب والده، والرجل الغريب يبحث عن أمر الروح، في جثث الموتى، وجاء الحوار مكثفا غنيا بالدلالات مع تركيز المخرج على الجانب البصري كنص مواز تغلب على الجانب السردي لتكثيف الصورة لشد أنظار المشاهد، كذلك قام بتوظيف الألوان بشكل دلالي، فعتمة البحر تعكس الجانب النفسي للشخصيات، وأهمها عمى الشاب (عيسى) وغياب الحقيقة، والاستسلام للخرافات.
ورغم تشابه سياق الحدث الرئيس المتمثل بحلم الشاب بالسفر في البحر بحثا عن لغز والده، بحلم بطل فيلم (بس يا بحر) بالركوب بحثا عن اللؤلؤ ومعارضة الأهل له، إلا أن الفيلم الذي يبلغ طوله 30 دقيقة يعدّ تجربة ناجحة إخراجا وتصويرا (تم تصوير مشاهده في الدقم والسويق والمصنعة والسيب) وأداء ورؤية سينمائية أعادت الأمل بصناعة سينمائية عمانية يتحقق على يد الشباب.