هوامش ومتون :المقالح وأشجار أسئلته المعمّرة
حين أراد د.عبدالعزيز المقالح أن يكتب في منتصف عام 2021 عن صمود أهل غزّة في وجه آلة القتل والدمار، بعد الأحداث العنيفة التي وقعت صباح يوم 10 مايو2021م، عندما اقتحم أفراد الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى تساءل مع نفسه:
ماذا أكتُبُ؟!
صار الحِبرُ دَما
والماءُ دَما
والكلماتُ دَما
والعالَمُ غابَةَ قَتلٍ ومقابر..!
أين أوَاري وَجهِي
أدفِنُ كلماتي
خَجَلا مِن أطفالكِ يا غزَّة
يا أمَّ الأبطالِ المَنذورين لِتَحريرِ الأرضِ
وقَتلِ الوَحشِ الصّهيونيِّ
الغادر؟
لكنّ الشاعر اليمني الراحل الذي مرّت بنا سنويته الأولى يوم 28 نوفمبر الجاري، لم يستسلم لحيرته، فكيف يعجز قلم شاعرنا الكبير عن التعبير عن حالة الألم التي يعيشها، و(غزّة) تكتب في كلّ يوم (قصائدَ الدّم والانتصار)؟ كيف يستطيع أن يصمت ونوافير الدم في كلّ بيت من بيوت (غزّة)؟ تلك النوافير تتدفّق غزيرة وتتحوّل في دفاتر الشاعر إلى صرخة احتجاج على القتل والصمت، فكانت قصيدته (غَزَّةُ تكتب قصائدَ الدّم والانتصار) ففي حضرة الدم في غزّة يستردّ وجوده:
أيّها الحُزنُ خُذني إليها
إلى غزّةَ الدَّمِ والجُوعِ
كي أستَردَّ وُجُودي
وأخرجَ مكتملا صامدا مثلها
ويُطَهّرُني لهبُ الاشتعالْ.
أيّها الحُزنُ خُذني بعيدا
عن اليأسِ»
وكأنه في المقطع الأخير يحاول الفكاك من أسر اليأس الذي تلبّسه عندما كتب قصيدته الشهيرة (أعلنت اليأس) في أبريل 2018م حزنا على ما آلت إليه الأوضاع في اليمن، وقد رفض فكرة مغادرتها للخارج للعلاج، حين تفاقمت عليه الأمراض، ودبّ التعب في جسده، فقد توحّد مع اليمن، بعرى خفية لم يشأ أن يفصمها إلّا الموت، يقول د. علوي الهاشمي «لم يساورني الخوف على عبدالعزيز المقالح الصديق القديم وعلى باقي الأصدقاء الذين عرفتهم من شعراء اليمن وأدبائه، إلا حين ابتدأت الحرب تستعر وتزيد في اليمن السعيد عام 2016م وما بعده خلال السنوات الخمس المنصرمة، وزاد خوفي وقلقي على المقالح وجميع الشعراء الذين عرفتهم لما أعرف عنهم ارتباطهم الشديد باليمن الذي لا يفكر أحدهم في الابتعاد عنه ولا يستطيعون ذلك وبخاصة عبدالعزيز المقالح!»
في قصيدته (أعلنتُ اليأس) التي عدّها الدارسون والمتتبّعون لنتاج المقالح مرثية مبكّرة، لنفسه شأن مالك بن الريب في قصيدته:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
بوادي الغضا أزجي القلاص النواجيا
لكنّ المقالح كان ينظر إلى الأبعد من ذلك فرثى الأمّة التي شاخت عزيمتها واستسلمت للهلاك:
أنا هالكٌ حتما
فما الداعي إلى تأجيل موتي
جسدي يشيخُ
ومثله لغتي وصوتي
ذهبَ الذين أحبهم
وفقدتُ أسئلتي ووقتي»
فهل حقّا فقد المقالح أسئلته، وهو الذي زرع فينا أشجار الأسئلة المعمّرة؟ وفتّح أذهاننا على الكثير من القضايا، فهو في صنعاء كما وصفه د. الناقد جابر عصفور، (طه حسين اليمن)، في محاضرة ألقاها في كلية الآداب في جامعة صنعاء كما يقول د. علي جعفر العلّاق واصفا شعوره «أحسست بالقاعة كلها وقد هزتها نشوة الامتنان. فقد قال الرجل بالنيابة عنا ما هممنا، أو عجزنا عن قوله، في لحظة صدق طالما مررنا بها دون أن ننتبه، أو نفطن، أونحس. لا بفعل الغفلة، أوالنسيان، بل لأن عظمة الرجل البسيط، أو بساطته العظيمة، إن شئتم، كانت تشدهنا عن أنفسنا كل لحظة»
لقد أمطرنا بأسئلته المفتوحة كالسؤال الذي طرحه على روح صديقه الشاعر صلاح عبد الصبور، في ديوانه (كتاب الأصدقاء):
«يا صديقي:
لماذا تعجّلت موتك
واخترت أن تشرب الكأس
منفردا؟
أنت من كان يؤثر أصحابه
ويقاسمهم -في المودّة-
ورد الحياة»
وكما يقول أبو فراس الحمداني «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر» نتذكّر اليوم المقالح الذي أحب فلسطين ورأى في مقال له أنها «ستحررنا وتوحد مساراتنا الوطنية والقومية» بل إن أول قصيدة نشرها في 1956 باسمه الصريح، وكان ينشر محاولاته الأولى باسم (ابن الشاطئ) حملت عنوان (من أجل فلسطين)، وألقاها من إذاعة صنعاء في العام الأول لافتتاحها ونقول: كم نحن بحاجة اليوم لشعراء كبار بحجم المقالح يرفعون أصوات احتجاج على ما يجري من جرائم في الجزء الغالي من وطننا الكبير!
ولو كان حيّا بيننا، ماذا سيكتب اليوم عن (غزّة)؟