هوامش.. ومتون: المفقود من مدوّنة الذاكرة

15 سبتمبر 2021
15 سبتمبر 2021

بعد أن تعبت من قراءة الجزء الأول من كتاب (المدافن والمعابد في حضارة بلاد وادي الرافدين القديمة) للدكتور نائل حنّون، وأمضيت وقتا مع الشعائر والعمارة كما وردت في النصوص المسمارية والآثار، شعرت بآلام في عينيّ من كثرة القراءة، وامتدّت الآلام إلى عمودي الفقري لكثرة الجلوس، لذا قلت: لابد أن أحرّك ساقيّ، وقفت، وفجأة سمعت إشعارا ينبهني لوصول رسالة جديدة، عدت لهاتفي، قرّبته من عينيّ، شعرت بحاجتي للنظارة، نظرتُ إلى الكتاب لم أجدها، ولم تكن على الطاولة، ولا على جوانب الكرسي الذي كنت أجلس عليه، يا ترى هل جرى معي ما جرى للجدّة المسكينة التي كانت تفقد نظّارتها، بين حين وآخر، في قصّة من قصص الأطفال لـ(روهيني نيلكاني)؟ قلت: لأضع حكاية (نظّارة جدّتي) جانبا، ولا ضرورة للارتباك، عليّ أن أركّز، فربما سقطتْ منّي قبل نهوضي، من الكرسي، فتّشت المكان جيدا، لم أجد لها أثرا، عندها، قلت: ربما وضعتها على رأسي، وبأصابع تتعثّر بالخيبة، تحسّست رأسي، ووجهي، ولم أعثر إلا على عينين كليلتين، ووجه حاف، ورأس مزحوم بالأفكار الشاحبة، والصداع!

يا ترى، أين اختفت النظارة، هل ذابت كفصّ ملح؟ أم دُفنت في مكان ما، كما يُدفن الأموات في ظلّ معتقدات بلاد وادي الرافدين، بعد نزول الروح إلى العالم السفلي، وعليه وُجب حفظ الجثة، لضمان سكينة الروح، واستقرارها في ذلك العالم كما يشير الكتاب، الذي شتّت تفكيري.

لقد اختلطت عليّ الصفحات، والجمل، والواقع، والخيال، ففقدتُ وسط تلك الدوّامة نظّارتي.

ولكن كيف جرى كلّ ذلك؟ هل حال حجاب بين عيني، وبينها بسبب تفكيري بأمور أبعد؟، يقول الحلاج "من لاحظ الأعمال حُجب عن المعمول له، ومن لاحظ المعمول له، حُجب عن رؤية الأعمال"، لأضع (الحلّاج) جانبا، كما وضعتُ كتاب (المدافن، والمعابد)، وأواصل البحث، ولأنني رجل لا تستقيم أموره بدون نظارة، وضعتُ حسابا لمثل هذه المواقف الحرجة، فاحتفظت بنظّارة احتياطيّة، لكن تلك النظارة لم أعتد على استعمالها، فجعلتُ ذلك من الضرورات التي تبيح المحظورات، لذا، واصلت محاولات البحث عن النظّارة، وخلال تلك الدقائق القليلة، استحضرتُ أشياء فقدتها منذ زمن بعيد، يقول نيتشة "عندما يصيبنا التعب، تعود الأفكار التي هزمناها منذ وقت طويل للهجوم علينا مجدّدا"، ولكي لا أستسلم لهذا الوضع، حاولتُ إعادة شحن ذاكرتي، وتقوية روحي المعنوية، فالذي فقدته ليس سوى نظّارة طبّيّة من بلاستيك، وزجاج!

عدتُ إلى مكاني الأوّل، بعد أن شربتُ كأسا من الماء، لأستعيد نشاطي، وتركيزي، وهنا وقعتْ عيني على علبة النظّارة، نظرت إليها بعين مليئة بالأسى، كونها أصبحت رحما فارغا، إطارا بلا لوحة، جملة بلا معنى، قرّبتها منّي، فتحتها، وكانت المفاجأة أنّ النظارة كانت نائمة في حضنها!

كيف جرى ذلك؟ لا أدري، ولكن يبدو أنّني، قبل قيامي من مكاني، أعدتُها للعلبة بحركة ميكانيكية، لم تدخل في مدوّنة الذاكرة، لذا غابت عني!

هذه المفارقة أعادتْ إلى ذهني الكثير من الحقائق الكبرى التي تغيب عنّا، في زحمة الحياة، ولا ننتبه إليها بحكم الاشتغال، وضعف التركيز، إلا بعد فقدانها!

فيغمرنا حزن كبير، يقول دانتي: "ليس من حزن أعظم من أن تتذكر السعادة في زمن البؤس"، هناك أمور من كثرة اعتيادنا عليها صرنا لا نشعر بوجودها، رغم أنّها أساسيّة، لكنّنا لا نعرف قيمتها إلّا بعد غيابها!

قد تكون الصحّة من بينها، فهي جواد لا نشعر بقيمته إلا بعد النزول عن ظهره، وكلّنا عشنا تجربة واحدة، في الشهور السابقة، خلال الحجر المنزلي، يومها، كنّا نسترجع الكثير من التفاصيل الجميلة التي عشناها، ولم نشعر بقيمتها، إلّا عندما حُرمنا منها، ومن تلك التفاصيل: لقاءاتنا مع الأهل، والأحبّة، والأصدقاء، السير على ساحل البحر، عندما يرخي الليل سدوله، حضور عرض مسرحي، أو حفل موسيقي، أو جلسة ثقافيّة، سعادات قد تبدو صغيرة، لكنّها تشكّل بمجموعها سعادة لا حدود لها، ولكي لا تضيع ثانية، علينا التمتّع باللحظات الجميلة المحيطة بنا، وعدم التفريط بها، ولـ "نكن شاكرين لمن يغمروننا بالسعادة لأنهم بستانيون رائعون بفضلهم تتفتّح براعم أرواحنا" كما يقول مارسيل بروست، وشكرا لنظّارتي التي بفضل فقدانها المؤقت، وفّرتْ لي مناسبة للحديث عن الاعتياد الذي يحجب الرؤية عن أنظارنا.