هوامش... ومتون: العبدُ الفقير في ضيافة الأمير
حين روى صاحب السموّ الملكي الأمير الحسن بن طلال، رئيس منتدى الفكر العربي، حادثا تعرّض له وكان برفقة شقيقه المغفور له الملك الحسين، لم يقل: إن المستهدف في الحادث كان المغفور له وأنا، بل قال: جلالته، و(الحقير)، وأشار إلى نفسه، فكان اللفظ ثقيلا علينا، نحن الذين كنا نصغي لما يقول سموّه، فشعرنا بالحرج الشديد، كيف يمكن للإنسان، المحاط بكلّ مظاهر العظمة، من حرس، ومرافقين، ومكتب في قصر من القصور الملكية أن يطلق على نفسه وصفا اعتدنا قراءته في كتب رجال الدين، والفقهاء، والزهّاد إلى جانب أوصاف تفصح عن روح زاهدة متسامية متعالية على الصغائر!؟ ومن تلك الأوصاف قولهم: العبد الفقير لله، امتثالا لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15)، وقد تبدو مقبولة في إطارها الروحي، لكن أن تأتي من سليل الأسرة الهاشمية، الذي تسري بجسده دماء ملكية، فهذا هو مثار الدهشة المشوبة بإعجاب، لذا سارع د. محمود السليمي، إلى القول لسموّه: أنت كبير بمقامك، وعلوّ شأنك، محاولا تخفيف حدّة الوصف، لكنّ سموّه واصل كلامه، سائحا في مناطق عقلية، محلّقا بنا في تلك العوالم، فمضينا في جولة فكرية ماتعة، وهو يحدّثنا خلال ذلك اللقاء عن نظرية (جزيرة العالم) لماكندر التي ترى أنّ من يحكم الجزيرة العالمية يحكم العالم، في خضمّ صراعات القوى العالمية، فقارات العالم القديم ( آسيا، أفريقيا، أوروبا) يسكنها 90% وهي تشكل جزيرة عالمية، وعرّج في حديثه على أحداث في تاريخنا الإسلامي شكّلتْ مفاصل مهمّة، لم تزل تلقي ظلالها على حاضرنا، الذي يعاني من تمزّق، وشتات، ومن بينها حادثة التحكيم التي جرت في جبل التحكيم عقب معركة صفين عام 37 هــ الذي يقع شمال مدينة معان الأردنية، مشيرا إلى وجوب التحقيق من أمرين، موقع الحادثة، حسب ما وصلنا من روايات تاريخية، وما نتج عن التحكيم، منوّها إلى وجوب إعادة النظر في الكتابات التاريخية السابقة حيال حادثة التحكيم، وقراءتها قراءة واعية، واستنباط الدروس، والعبر، وأن لا ننظر للتاريخ بوصفه أحداثا جامدة، وتصحيح ما ورد فيه من أخطاء، والاستفادة من التاريخ من تشخيص الواقع المعاصر، وتشعب الحديث وقوفا عند الرؤية الإباضية عن المسلمين الناطقين بالشهادة وهي سياسة متّبعة في التعامل مع الآخر منذ القدم، فتحدّث د.محمود السليمي رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي عن سياسة المعاملة مع مختلف المذاهب الفكرية الإسلامية وهو مبدأ متبع في المدرسة الفكرية الإباضية، مشيرا إلى قول أحد علماء عمان الكبار، وهو الإمام نور الدين السالمي:
ونحن لا نطالب العبادا
فوق شهادتيهمُ اعتقادا
فمن أتى بالجملتين قلنا
إخواننا وبالحقوق قمنا
ونحن حيث أمر القرآن
لا حيث ما قال لنا فلان
فالأوّلون استخرجوا ما استخرجوا
من الدليل وعليه عرّجوا
فهم رجال وسواهم رجل
والحق ممن جاء حتما يُقبل
فأعجبت سموّه الأبيات، فالتفت إلى رئيس مكتبه طالبا منه تدوين الأبيات، لكنّ تدفّق الكلام وهو يجري من لسان السليمي حال دون ذلك، فطلب مني تدوينها، وأعاد السليمي استحضارها، ففاتتني أبيات، فوعدته بإرسالها عبر رسالة نصية، ومن خلال اهتمام صاحب السمو بتلك الأبيات اتّضح لنا إعجاب سموّه بخطاب العقل والوسطية، والاعتدال، في عالم يضجّ بالصراعات، فالخطاب السائد اليوم قائم على استقطاب الكراهية، منوّها إلى أهمية تعامل المسلمين مع بعضهم على وفق المنهجية السليمة، متسائلا: كيف نحرم أنفسنا من فرص الحوار مع الآخر الذي ينتمي للآدمية (كلّنا لآدم وآدم من تراب)، والحرية بمعناها المثالي؟ وأشار: يمكننا تجاوز نقاط الخلاف إذا استطعنا أن نقترب من موضوع الإجماع، والشورى، وكان بين حين وآخر يجدّد الترحيب بنا مؤكّدا: إنّ هذا اللقاء يعود لقرون من التاريخ الإسلامي، مثنيا على جهود السلطنة في إرساء دعائم الحوار الحضاري والثقافي، وتعزيز قيم السلام، والتسامح والمحبّة في المنطقة والعالم.
وإذا كان سيدنا موسى(عليه السلام) دعا، في القرآن الكريم: «فقال رب إنّي بما أنزلت إليّ من خير فقير»، وقوله تعالى: «والله الغنيّ وأنتم الفقراء» فقد عرفت خلال ذلك اللقاء، الذي جمعني بهذه الشخصيّة العربيّة الفكريّة الفذّة، معنى الغنى الحقيقي، والفقر بمعناه المجازي العميق، وشعرتُ كم نحن فقراء إلى المعرفة الإنسانية!
* عبدالرزاق الربيعي كاتب وشاعر عماني ونائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي