هوامش ومتون: الذين يهرفون بما لا يقرؤون
عندما أعلنت الأكاديمية السويدية بستوكهولم عن فوز الكاتبة الفرنسيّة (آني أرنو) بجائزة نوبل 2022م، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بالنيل من الكاتبة الفائزة ووصفتها بأنها (مغمورة)، وقد نالت الجائزة لأسباب غير فنية، بل إن الكثير من هؤلاء اتهموها بمحاباة (إسرائيل)، المفارقة أن وسائل الإعلام الصهيونية هاجمتها، ووصفت مجلة (تايمز أوف إسرائيل) نشاطاتها أنها مناهضة لإسرائيل، واعتبرتها منحازة للحق الفلسطيني، كما ذكر أكثر من متابع، غير عابئين بقراءة أعمالها قبل إطلاق الأحكام عليها وعلى نتاجها، في زمن اختلط به الحابل بالنابل، وقد كشف معظم الذين هاجموها، وانتقصوا من تجربتها أنهم لم يقرؤوا كتبها!
وفي كتاب «أيام مع نجيب محفوظ» يشير محمد الشاذلي إلى دعوى أقامها محام في جنايات المنصورة سنة 1995 للتفريق بين محفوظ وزوجته، بتهمة ازدراء الأديان، جاعلا من رواية محفوظ (أولاد حارتنا) حجّة وسببا لإقامة الدعوى، وبعد المداولات التي أجرتها المحكمة مع المحامي، توصّلت أنه لم يقرأ الرواية، فأسقطت الدعوى التي سببت انزعاجا للكاتب الحائز على جائزة نوبل في 1988 م، وقال: «يزعجني أن أنهي حياتي في هذه السن في ساحات المحاكم، أنا الذي لم أدخل محكمة في حياتي».
وليس المحامي الذي رفع الدعوى وحده الذي لم يقرأ الرواية، فالشابان اللذان طعنا محفوظ في أكتوبر لم يفتحا الرواية، ورغم ذلك لم يظهرا ندمهما، مثل هذا النوع من الندم، أظهره شاعر كبير هو رسول حمزاتوف، على كلمة له في اجتماع شعبي حول فصل كل من الكاتب ميخائيل زوشينكو والشاعرة آنّا أخماتوفا من عضوية اتحاد الكتّاب السوفييت، وحظر نشر أعمالهما الأدبية، عام 1946م، وورد في تصريح له: «لم أندم في حياتي على شيء أكثر من ندمي على كلمتي تلك»، لكنّ الغريب بالأمر أنه يعترف: «لقد شجبت أعمالهما الأدبية في وقت لم أكن قد قرأت بعد شيئا من تلك الأعمال»، ويبدو أنه أراد الإشارة أن تلك الكلمة لم تبنَ على أساس صحيح، وقد جاءت بعد أن مورست ضغوطات ضدّه، ومهما كان السبب، فهذا لا يعفيه من مسؤولية تصريحه، في ذلك الاجتماع، ولا يبرّر له ولا سواه إصدار حكم على عمل لم يقرؤه، والكثيرون الذين يتحدثون عن رواية (آيات شيطانية) للكاتب البريطاني سلمان رشدي، لا يعلمون أن الترجمة العربية غير كاملة، فلم يجرؤ مترجم على ترجمتها، وكتابة اسمه، حتى أن المترجم الياباني الذي ترجمها إلى اليابانية تم اغتياله.
إن هذه الظاهرة صارت منتشرة، بشكل واسع، فأمّة (اقرأ) لم تعد تقرأ، وقد كشفت إحصائية أن الأوروبي يقرأ 35 كتابا في السنة، بينما يقرأ 21 ألف فرد في العالم العربي كتابا واحدا!
ولأنهم لا يقرؤون، صاروا يهرفون بما لا يعلمون، واتّكؤوا على أحكام مسبقة، الداء العضال الذي صار مستشريا، ضاربا عرض الحائط (الاستنتاجات الخاصة) المبنية على التجربة، والتحليل، للخروج بنتائج من حصيلة القراءة الواعية التي تتفاعل مع النص، تلك القراءة عنتها الكاتبة فرجينيا وولف بمقولتها: «القراءة هي أن تتبع حواسك، أن تستخدم عقلك، وأن تتوصل إلى استنتاجاتك الخاصة».
وإذا كان يباع في الولايات المتحدة وحدها 1.8 مليون كتاب، فمعارض الكتب عندنا والمكتبات تشير إلى أرقام محزنة، رفعت عدد أدعياء الثقافة الذين ينبرون في كل مناسبة لإصدار أحكام جاهزة، وكل واحد منهم ينطبق عليه قول الشاعر:
أحدّثه ويقطب حاجبيه
ليفهم أنْ له علم غزير
هذا النوع جعل (ثقافة الإشاعة) مرجعيّته، والحجّة الدائمة هي عدم توفّر الكتب!
وهي حجّة واهية وضعيفة، فالكتب متوفّرة في المكتبات الورقية والإلكترونية، ومنصّات البيع التي صارت توصل الكتب للراغبين إلى المنازل، ومقار العمل، ومعارض الكتاب التي صارت توفّر الكتب القديمة والجديدة، وتأتي بأحدث العناوين، كما رأى زوّار معرض مسقط الدولي في دوراته المتعاقبة، كلّ هذه تطيح بحجج الذين يهرفون بما لا يقرؤون.
عبدالرزاق الربيعي.. كاتب وشاعر عماني ونائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي