هوامش ومتون :أشخاص بلا أعمار!

27 ديسمبر 2023
27 ديسمبر 2023

تملي علينا الأيام الأخيرة من كلّ عام مراجعات نجدها ضروريّة، حيث ينتصب الزمن على امتداد قامته، لكي يُشعرنا أنه ماض إلى الأمام، تلك المراجعات لا تتوقّف عند العام الذي يلفظ هذه الأيام أنفاسه الأخيرة، بل يتجاوز ذلك إلى الأعوام السابقة، بل والعقود المنصرمة، وفي تلك المراجعات نعثر على صور قديمة، وأشخاص، ومواقف، قد تعود إلى عقود كما حدث معي قبل أيام في بغداد، التي فيها للماضي ملاذات، جعلتني أردّد مع أحمد شوقي قوله: كلما جئتك.. راجعتُ الصبا فأبتْ أيامه أن ترجعا قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا ففيها تتفتح الذاكرة، وتدبّ الحياة في الماضي، الذي عشناه فتجود علينا بما خبّأت لنا في جعبتها، وهكذا جادت عليّ بغداد بذكرى قديمة، لطلاب يجلسون في فصل دراسي، كان مكتظا بالأحلام، والحماس، والنشاط، رغم كراسيه المتهالكة، ونوافذه المفتوحة لكلّ الاحتمالات على مدار العام الدراسي، حدث ذلك بينما كنت أهمّ بالخروج من مطعم يسترخي على ضفاف نهر دجلة، إذا بالكاتب والمخرج عمران التميمي يستوقفني، وهو من أصدقاء الدراسة الثانوية، إذ درسنا معا في ثانوية (التأميم) بمدينة الحرية، وعزّز علاقتنا اشتراكنا في مهرجانات شعرية طلابية، وتردّدنا على العروض المسرحيّة الطلابية التي كانت تقام في معهد وكليّة الفنون الجميلة كمشروعات تخرّج، فحفر لقاؤنا أرضيّة تلك الذكريات العزيزة، في سنوات التكوّن، والتشكّل الثقافي، جذبته إليّ ولسان حالي يردّد مقطعا للشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا علق في ذهني استللته من إحدى قصائدها: «تعال يا صديقي ادخل دون أن تطرق لا يوجد باب لصداقتنا» كانت أبواب الماضي مفتوحة، وكذلك القلب، وبسرعة خاطفة أخذني من يدي إلى طاولة طويلة يجلس عليها مجموعة من الأشخاص الستّينيين، وعلى رأس الطاولة يجلس رجل أشيب ثمانيني، هادئ الملامح، وقال التميمي: جئت في الوقت المناسب، فمعنا اليوم لقاء شهري لمن تبقّى من زملائنا في إعدادية (التأميم)، مع الفاضل طه المشهداني، أستاذ مادّة الكيمياء.

يا لعجلة الأيّام ! كم هي سريعة ! هكذا تبدو لمن ينظر إليها من خارجها.

لقد أعادني ذلك المشهد إلى سنوات بعيدة خلت، وحين تصفحت الوجوه لم أتذكر غير صور قديمة تعود إلى ما قبل أكثر من أربعين سنة، لكن الحميميّة التي قوبلت بها، سكبت قطرات ندى باردة على الذاكرة فأنعشتها، وفي المقابل أحسست بوطأة الزمن، تذكرت الانطباع الذي نقله لي الصديق الشاعر الراحل كريم العراقي عندما زار مدينة صباه بعد سنوات فراق طويلة والتقى أصدقاء الدراسة، ولاحظ أن الشيب قد غزا وجوههم وأذقانهم، والبعض كان يتكئ على عصا، قال لي «في تلك اللحظة شعرت أنني كبرت، وأن حكم الزمن يسري على الجميع دون استثناءات للشعراء وسواهم» أصدقاء الماضي مرايا عاكسة لوجوهنا، يقول المثل «خير مرآة صديق قديم»، وها هي المرايا كلها مجتمعة تشهد أن الزمن قال كلمته الفصل، وإن حاولنا مراوغته، بالتحسينات والأصباغ، محاولين نسيان سلالم الأعمار، يقول الكاتب الفرنسي ميلان كونديرا «جميعنا في جزء ما من أنفسنا نعيش وراء الزمن.. ربما لا نعي أعمارنا إلا في لحظات استثنائية؛ لأننا معظم الوقت أشخاص بلا أعمار!» وتلك هي اللحظات الاستثنائية التي تباغتنا فجأة وتجعلنا نعود إلى الوراء، لا لنجلس في الماضي، بل لننطلق بقوة إلى المستقبل، فرغم كل الأزمات التي تحيط بالعالم علينا أن نفتح ذراعينا للحياة، تقول الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا «هذا العالم المريع لا يخلو من مفاتن لا يخلو من صباحات تستحق أن نستيقظ من أجلها»، لاسيما ونحن في استقبال عام جديد.