هوامش ومتون: أرقام مجرّدة !
من الطبيعي أن ترفض ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية لقب "عجوز العام" الذي منحته لها المجلة البريطانية The Oldi، وبعيدًا عن الأهداف النبيلة المرسومة لمنح هذا اللقب، التي في مقدّمتها تقدير المجتمع لحامليه، وقبول أيّ شخص للقب، من الناحية النفسيّة، هو إقرار بحكم الزمن القاسي، وسيفه المسلّط على الرقاب، حتى وإن كان حامل اللقب في ذاته مؤمنًا بذلك، فجلالة الملكة تعلم أنها تبلغ من العمر 95 عامًا، وعمّا قريب ستناطح القرن، أمدّ الله في عمرها، ولكنها ترى أنّها لا تستحقّه، كونها غير مستوفية للمعايير المطلوبة، من حيث "أنك كبير في السن بالقدر الذي تشعر به، وبالتالي لا تعتقد الملكة أنها تستوفي المعايير لتتمكن من القبول" كما جاء في رسالة مساعدها.
لقد أعاد هذا الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء، للكثيرين السؤال عن الأعمار، وقياسها بالسنوات، فمن هو الشاب؟ ومن هو العجوز؟ هل عدد السنوات التي يعيشها المرء يحدّد ذلك؟ أم أن السنّ مجرّد رقم، كما يقول شمس الدين التبريزي" يجب عليك أن تفهم أنّ هذا السن مجرد رقم لا يشكل حقيقتك أبدًا. ربما تكون طفلاً بسن الستين، أو شيخًا بسنّ العشرين"، أم أن الروح هي التي تضع المعيار الحقيقي؟ كما يرى أحمد الصافي النجفي بقوله:
سنّي بروحي لا بعدّ سنيني
فلأسخرنّ غدًا من التسعين
عمري إلى السبعين يركض مسرعًا
والروح ثابتةٌ على العشرين
أم هو تشبّث بالشباب، ومباهجه؟، وقديمًا توجّع الشاعر العربي على الشباب الذي ولّى قائلا:
عريت من الشباب وكنت غضًّا
كما يعرى من الورق القضيبُ
ونحت على الشباب بدمع عيني
فما نفع البكاء ولا النحيبُ
ألا ليت الشباب يعود يومًا
فأخبره بما فعل المشيب
وعلى كلّ حال، فالمسألة لها علاقة بشعور المرء، وعدم تقبل كبار السن لما يذكّرهم بأنهم بلغوا من العمر عتيًّا، والمعروف ألا شيء يزعج كبار السن مثلما يزعجهم الحديث عن الشيخوخة، والموت، وكلّ ما له صلة بذلك، وقد حدّثني الإعلامي زهير ماجد عمّا جرى لفريق عمل البرنامج التلفزيوني (دفاتر الأيام) الذي كان يعدّه، ويخرجه، خلال استضافته للشاعر محمد مهدي الجواهري، فعندما طلب منه في نهاية الحلقة أن يغلق الباب، ويطفئ الضوء، اعترض الجواهري، وكان في عقده التاسع من العمر، وقال: هل تريد بذلك إعطاء إشارة بموتي؟!
وهو ليس بالأمر الغريب على شاعر قال في الثمانين من عمره:
حسب الثمانين من فخر ومن جذل
غشيانها بجَنان يافع خضلِ
ولكن هذا التشبث هو نوع من مقاومة الزمن، ولعلماء النفس كلمتهم، فهم يرون أنّ شخصيّة الإنسان غير ثابتة، قابلة للتغيّر، كلّما تقدّم بالعمر، ومرنة، فالشخصية التي تتميّز بالانفعال تتراجع درجة انفعالها، كلّما تقدّم صاحبها بالعمر، وتشكّل الخبرة، وتجارب الحياة المختلفة عوامل أساسية في تغيير المزاج العام للشخصية، وتصير أكثر قدرةً على التكيّف مع المحيط الاجتماعي، وتقبّل الحقائق الكبرى، كالموت، لذا، فنحن "لسنا أنفسنا طوال حياتنا" كما توصّل العلماء.
وبعيدًا عن أخيلة الشعراء، والحالمين، من الممكن مقاومة الشيخوخة عن طريق المحافظة على الشباب، من خلال اتّباع النظام الغذائي الصحّي السليم، وتغيير العادات التي درج عليها المرء في سنوات الشباب، كالسهر، وإجهاد الجسد بدون راحة، وتناول الأطعمة الدسمة، ويؤكّد الأطبّاء على ضرورة المداومة على النشاط البدني الذي من شأنه أن يزيد من تدفّق الدم في الأوردة، والشرايين، والانخراط في الأنشطة الاجتماعية، وقضاء أجمل الأوقات في السفر، وارتياد الأماكن التي توفّر بيئة تروّح عن النفس، فلو اتّبعنا ذلك، فإن القطع التي "بدأت تتساقط من الإطار القديم" كما قال زوج إليزابيث، الأمير فيليب عندما رفض اللقب نفسه، قبل سنوات، لن تتساقط، ويظلّ السنُّ "مجرّد رقم" في حقول الأعمار، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.