هوامش ومتون
قبل ساعات قليلة من خروج جثّة الطفل المغربي (ريّان) من البئر، لبّى الشاعر هلال العامري نداء ربّه، ليغادر كلاهما بئر الحياة الدنيا، ويعانقا الأبدية، ورغم أن عمر العامري ناهز السبعين لكنه ظلّ ينظر للحياة بعين طفل، فهو القائل:
"سجّي الطفل
بين الندى والدماء
فوق لهيب السفوح
على قارعات المدى
سُجّي الطفل
معتليًا صهوة الصوت
بعد ألف وعام من الموت"
وإذا كان العامري قد قال قصيدته هذه بعد أن شاهد صورة طفل فلسطيني يسبح بدمائه، فماذا سيكتب عن الطفل المغربي المسجّى، لو لم يسبقه إلى قبره الذي اختاره ليكون تحت ظلال نخيل سمائل؟ ولو لم يدخل في غيوبته الأخيرة التي دامت أيامًا لمدّ يديه الكريمتين اللتين يا ما مدّهما للكثيرين، لينتشل (ريّان) من ظلام البئر، وهو الذي وقع في بئر أكثر قسوة هو بئر المرض، ورغم ذلك واصل حياته بكلّ شجاعة، وواجه المرض بروح قوية، ووجه "وضّاح وثغر باسم"، وكأن أنياب المرض لم تكن تنهش في جسده النحيل، وكأنّه لم يكن يمضي ساعات طويلة في المشفى تحت رحمة الأنابيب التي تغسل الكلى الكليلة لثلاث مرات في الأسبوع الواحد!
دون أن يتوقّف عن الأحلام.
ومع معرفتنا بأن: "ما كل ما يتمنى المرء يدركه" فالمتنبي قصد، ببيته الشهير، الأماني الصعبة المنال، كالتي كانت تشغله، وهي أن يولّيه الحاكم سيف الدولة الحمداني ولاية، لكن هناك بعض الأماني من اليسير تحقيقها، فتظهر عوائق لا نعرف كنهها تحول دون ذلك، وقبل أن أتحدّث عن أمنية الشاعر الراحل هلال العامري، لا بدّ من الإشارة إلى الالتفاتة الكريمة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) على تكريمها له في الدورة السابعة لليوم العربي للشعر، لكونها جاءت من مؤسسة ثقافية عربية لها مكانتها، وفي مرحلة كان يعاني خلالها من شدة وطأة الألم والعزلة، والنسيان، فمن المبهج أن تتذكّره مؤسّسة ثقافيّة عربيّة، لها وزنها الثقافي، وتبعا لذلك تذكرته وسائل الإعلام، ولابدّ من الإشارة أنّ هذا التكريم، ليس هذا هو الوحيد الذي ناله الشاعر الراحل، فقد كرّمته المؤسّسات الثقافيّة العمانيّة، كالجمعية العمانية للكتاب والأدباء، حين اختارته شخصية العام الثقافية 2018، وقبل ذلك جمع النادي الثقافي أعماله في مجلّد حمل عنوان "الأعمال الكاملة للشاعر هلال العامري" صدر عام 2013 م ضمن البرنامج الوطني لدعم الكتاب في مجلد نشرته دار الانتشار العربي ببيروت، وكم كانت سعادتنا كبيرة عندما أبلغتنا المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) أنها تنوي بالتنسيق مع وزارة الثقافة والشباب والرياضة إصدار كتاب يضمّ بحوثًا عن تجربة العامري، وتمّ تكليف المكرّم سعيد الصقلاوي، ود. سعيدة خاطر، ود. صبري مسلم، وكاتب السطور، لإنجاز البحوث خلال مدّة لا تتجاوز الشهرين، وجرى التواصل مع العامري الذي رحّب بالفكرة، وبارك السعي، فوفّر لنا ما نحتاج من كتب، ومصادر تعيننا، بل، وفّر صورًا نادرة ووثائق، وكان سعيدًا بهذه الالتفاتة، لاسيّما لم يَصدر كتابٌ عن تجربته، طوال حياته، وفي الموعد المقرّر قمنا بإرسال البحوث، وتمّ الاستلام، وبقينا ننتظر صدور الكتاب، ومرّت الأسابيع، والشهور، ولم يصدر، وفي لقائنا الأخير به قبل تدهور صحته، وإقامته الأخيرة في المشفى التي دامت٢٣ يوما، وكنت قد زرته بصحبة الشاعر سعيد الصقلاوي، سألنا عن الكتاب، واحترنا بماذا نجيب، وكان آخر تواصل جرى حوله هو توفير صور للغلاف ليتم اختيار إحداها، فحاول كسر الصمت بالمزاح، كما اعتاد سابقا، مغالبًا آلامه، وكنت قد سألته في حوار سابق أجريته لمجلة نزوى: بماذا خرجت من تجربة الألم فأجاب: "بإيمان قوي أن الله قادر على كلّ شيء، وأنا مدين للباري سبحانه، وتعالى لهذه النعمة التي أعيشها بعد المرض، وكل من وقف إلى جانبي، وخرجت بنثر وشعر رجعت لقلقي لأكتب استراحات جديدة، ذهبت إلى محطة أبث منها هذه الاستراحات، هذا يعني أن القلق ملازم لنا، لم أكن أتوقع المرض، لكن حين أصبت به غيّر تفكيري".
ومرّت الأيام، ولم يصدر الكتاب الذي خطّطنا أن نحتفي بصدور، بحضوره، حتى رحيله، وكان أول شيء خطر ببالي، بعد وصول الخبر الحزين، هو الكتاب الذي لم يصدر في حياته، وكان صدوره سيشكّل فرحة له، فكم من الأماني التي تعمل فارقًا لأشخاص في حياتهم تصل متأخّرة، مثلما تأخّرت عمليّة إنقاذ الطفل المغربي (ريّان)، فلفظ أنفاسه الأخيرة بعد خروجه من البئر، فمتى سيخرج كتاب الاحتفاء بتجربة العامري من بئر النسيان!؟