نوافذ.. هل أنت جدير بألمك!

08 يناير 2023
08 يناير 2023

لقد تصادف أسبوعي الماضي، مع عبور قصّة قتل مُروعة تُضاف إلى سابقاتها، ومشاهدة فيلم يختزنُ آلام الفقد العنيفة، وقراءة كتاب عن المعاناة البشرية في أبشع صورها، تلك المصادفة العبثية دفعتني لمحاولة فهم دوستويفسكي الذي رأى أنّ أكثر ما قد يُروّع الإنسان هو: "ألا يكون جديرا بآلامه"!

انتابتني الأسئلة: من أين تستيقظُ شراسة القتل التي تحفلُ بها حياتنا والكتب والأفلام، وكيف تنبتُ الرغبة الحاقدة في محو الآخر!

بدا لي فيكتور فرانكل مُتفائلا في كتابه "الإنسان يبحثُ عن المعنى"، وهو يُراهن في الظروف الأكثر مرارة على أهمية "الحرية الداخلية"، تلك التي لا يمكن أن تُحبس أو تُسلب، تلك التي تُضيء في أكثر دهاليز النفس البشرية قتامة، وذلك بعد أن قدّم لنا فرانكل الخصائص النفسية لنزيل معسكرات الاعتقال. في مكان تُغيب فيه الوثائق فيغدو الإنسان مجرد رقم، بالكاد يمتلك جسده. فالسجين بين خيارات ضيقة إمّا يُساق لأفران الغاز أو أن يموت بأمراض لا نهائية أقلها التجمد حتى الموت! ورغم ذلك لم يفضل هو ورفاقه الموت ولم ينتحروا، بل ناضلوا من أجل حريتهم!

يحكي فيلم "Changeling" 2008، عن آلام "كريستين كولينز"، التي تعرّض ابنها لاختطاف مُفاجئ عام 1928، في ولاية لوس أنجلوس، فأجبرتها الشرطة على قبول طفل آخر ليس ابنها، وكأن تلك الحادثة التي يُسلط عليها المخرج كلينت إيستوود الضوء ما هي إلا انعكاس لوضع سياسي بائس في فترة حرجة، توحش فيها الاستبداد نزاعا على السلطة، حيثُ يصل بهم الأمر لاتهام الأمّ بالجنون لأنّها لم تتعرف على ابنها المُستبدل!

يُعطي فرانكل الآلام والمعاناة معنى أصيلا لتحقق الحياة السوية، ويجد أنّ تقبل المِحن يمنحُ الإنسان حالة معنوية جيدة. كأن تستمد شابة توشك على الموت الأمل من شجرة سنديان يانعة تواجه نافذتها وتتحدث إليها كل يوم.

مرّة أخرى، كنتُ أفكر في الأمّ "كريستين"، التي كانت تنهضُ في كل مرّة، عقب كل محاولة لتضليل الحقيقة، بحثا عن ابنها، دون أن أعرف من أين تستمد جسارتها، ولعل تفسير فرانكل يبدو ملائما لكل القصص السيئة، ففي لحظة الشحوب واليأس، ينبتُ احتياج عارم بضرورة وجود "غاية" تُعطي المعاناة معنىً ما.

عزز فرانكل خطوط دفاعه باستعادة لحظات السرور في سجنه، فوجد أنّ سروره كان مرتبطا بالحساء، لاسيما لو سحبت المغرفة البازلاء من قاع القدر، ارتبط السرور بفسحة النوم وإن كان في شقاء المرض وبرفقة سبعين مريضا ينكمشون على بعضهم البعض، ليمنعوا تسرب الدفء في شتاء قارص. ارتبط السرور بتذكر زوجته أو تأمل السحب التي تتقد لحظة الغروب. لقد سعى فرانكل لتنمية روح المرح، كانت حيلة جيدة للتحليق فوق الوجع، ولذا اتفق مع صديقه على ابتداع قصّة كل يوم بها قدر من الطرافة كيلا يموتا.

لقد أوصلني فرانكل لهذه النتيجة: لا يبدو أننا سننجو من شِباك الحزن والآلام مهما حاولنا، لكن علينا أن نقتنع بنسبية المعاناة ونسبية السعادة، نقتنع بأن المعاناة تصنعُ المعنى عندما نقبضُ بصلابة على "حريتنا الداخلية".

وفي مكان آخر، يجد سبينوزا أنّ "الانفعال في جوهره معاناة، لكنه يتوقف عن أن يكون انفعالا ومعاناة حالما نُكوّن صورة واضحة ودقيقة عنه"، وأكاد أجزمُ أنّ ما يُعيقُ تقبلنا للمعاناة، يكمن في افتقادنا إلى المسافة الآمنة والحيادية التي ننظرُ منها لمبررات القتل العذاب، ولذا نأمل -مع تكرارها المرير- ألا نُصاب بالبلادة التي كانت ميكانيزم الدفاع الوحيد لدى المسحوقين تحت عجلات الحياة!