نوافذ.. نوستالجيا
Ashuily.om -
يجادل كثير من المختصين بأن مسألة الحنين إلى الماضي هي فطرة إنسانية جبل الناس عليها، وتتشكل ملامحها عبر السنين سواء للأفراد أو المجتمعات أو حتى الأمم ذاتها، وهذا الحنين أو ما يسمى بالنستالجيا راجع إلى أن الإنسان بتكوينه العقلي والعاطفي يمتلك مقدرة كبيرة على تذكر أحداث الماضي سواء بتفاصيلها الكاملة أم ببعض التفاصيل حتى وأن كانت صغيرة، لكنها كفيلة بتسليط الضوء على الماضي، ويمكن لتلك التفاصيل الصغيرة أن تنسحب على مجمل الحياة أو مجمل الأحداث التي عاشها وعاصرها ذلك الإنسان.
العودة إلى الماضي بقدر ما هي علامة صحية على تذكر المآثر والمناقب أو حتى الأزمات والعقبات التي حدثت في الماضي للعضة أو العبرة إلا أنها تصبح مؤلمة ومزعجة في سبيل تقدم الإنسان والإنسانية وتمنعه من النظر إلى المستقبل واستشراف آفاقه والعيش في حالة من الترقب لما يخبئه المستقبل، وتأتي في كثير من الأحيان كعلامة على رفض الواقع المعاش ومحاولة الهروب من ذلك الواقع بالعيش في الماضي وتذكر أيامه.
ما ينطبق على البشر من "نوستالجيا" يمكن أن ينطبق على الأمم فكثير من الأمم لا تزال تعيش على ماضيها الذي كان غير ملتفتة إلى حاضرها أو مستقبلها حتى وأن كان ذلك الحاضر أو المستقبل زاهرًا وزاهيًا، ولكنها تفضل العيش في خانة الماضي السحيق، فضلًا عن أن تلك الأمم قد لا تعترف بالمستقبل لكنها تعيش الماضي بكل تفاصيله السالفة.
الحنين إلى الماضي رغم اختلاف ذلك الحنين من شخص لآخر وأمة لأخرى لكنه بات اليوم علما طبيا وسلوكيا يدرس ويعلم وله قوانينه وأصوله وأسبابه ومشاكله وعلاجاته المختلفة باختلاف درجات ذلك الحنين وباختلاف الحالة التي وصل إليها ذلك الشخص أو تلك الأمة من الحنين إلى الماضي وتذكر أيامها بشيء من الحسرة على الأيام الجميلة الماضية أو حتى السيئة في بعض الأحيان مع محاولة العيش في ذلك الماضي والرغبة في عدم الخروج منه.
خاض الناس في أحاديث مطولة عن الماضي والحنين إليه والسكن فيه كونه حالة لا يجب أن تملأ حياة الفرد وتشغله عن التفكر في ما هو قادم، بل هو حالة مؤقتة من التفكر والتدبر لا ينبغي أن تطول أو أن تسيطر على حياة الإنسان وتشل تفكيره كاملا بحجة أن الماضي كان زاهيًا أو أن الماضي كان أفضل من الحاضر أو أن الحياة في الماضي كانت هي الحياة الأجمل وأن الحاضر صار أقسى والمستقبل لا تتضح رؤيته.
بدايات تشخيص هذا الحنين على أساس سيكولوجي مرضي كان على يد الطبيب يوهانس هوفر بعد أن لفت نظره مجموعة من العمال المغتربين عن أوطانهم كانت تظهر عليهم أعراض الأرق وعدم انتظام ضربات القلب، وعسر الهضم، وتبين فيما بعد أن من أسباب هذا المرض هو الشوق والحنين إلى الوطن. ولعل العلاج الذي كان يلجأ له أولئك المرضى للهروب من واقعهم الذي يعيشونه في الرغبة كان بالعودة بالعقل إلى الماضي إلى حيث الأوطان التي قدموا منها ونشأوا وترعرعوا فيها.
كما أشرت في البداية إلى أن الحنين إلى الماضي وحب العودة إليه سببه تقدم الإنسان في العمر وميله دائمًا إلى تذكر الماضي والحنين إلى الحياة التي عايشها في صغره ولا يكون هذا الحنين موجودًا لدى فئات الشباب وصغار السن ومتوسطي الأعمار لانشغالهم بالحاضر و التخطيط للمستقبل حتى وإن كان الحاضر غير زاهٍ، وكما قال الفيلسوف والكاتب الانجليزي برترناد راسل في كتابه الفوز بالسعادة أن السعادة ليست في الهروب من الواقع وإنما بالتحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا".