نوافذ : مَنْ تَزَكَّى..

16 ديسمبر 2022
16 ديسمبر 2022

shialoom@gmail.com

مستوى من الطهر يصل إليه فرد ما، وأي فرد؟ يقينا؛ ليس أي فرد، وإنما أولئك الذين تهذبت نفوسهم، وارتقت مداركهم، وانعتقت؛ حتى؛ من درائن اللمم، وهل هذا ممكن في حكم النفس البشرية الأمارة بالسوء.. النفس البشرية التي تتجاذبها الأهواء، والمصالح، والضعف، والمراهنات، والغرائز، والشبهات، والعواطف، والمشاعر، والخزعبلات، والتناقضات، والمساومات، والنزعات، والتربصات، والمخادعات، والالتواءات، والمناورات، والمخفيات؟ (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا وهو ألد الخصام) - الآية (204)؛ البقرة، وهل بعد كل هذه التموضعات يمكن أن تسل هذه النفس حالتها لتصل إلى التزكية؟ أم أن المسألة أحلام، وتخمينات، وتوقعات، ومحاولة، وجدل سفسطائي لن يصل إلى قناعة أكيدة، وتبقى القناعة الوحيدة أن التزكية حالة مثالية، والمثالية لا توجد في واقع البشر؟

عُلِّقَ عمل الإنسان بين مستويين متوازيين؛ هما؛ الخير والشر، ومنذ بدء الخليقة انغمس الفعل الإنساني بينهما، مرة ترجح كفة الخير؛ فيتزكى "نسبيا" ومرة ترجح كفة الشر، فيقع في مأزق الخطيئة، وفي كلا الحالتين يظل الخيار موضوعًا بين يديه، فله الإرادة الكاملة لأن ينحاز إلى أيهما يشاء، فيقرر إلى أيهما يرجح كفة الانتماء، لذلك فحالة الطهر متاحة لمن يملك إرادة ضبط النفس عن الاسترسال في تردي الأهواء والمغريات، وحالة الطهر درجة من درجات التزكية، وحالة الخطيئة أيضا متاحة لمن يريد أن يجازف بالنتيجة النهائية لأعماله في الحياة، وأقول النتيجة النهائية لأن تحديد الأعمار ليس بأيدينا، فما بين لحظة وأخرى؛ قد لا تتجاوز "رفة عين" (قبل أن يرتد إليك طرفك) قد يذهب هذا العمر بكل ثقله من الأعمال، ومن الإنجاز، ومن خبرات السنين، ومن ثقل الأعمال "سيئُها وحسنها" فأنى له أن تتاح له فرصة العودة إلى التزكية، فالعمر مخاطرة كبيرة، من استسهلها فله ذلك، ومن انحاز إلى الطهر؛ فله ذلك أيضا، (وكل نفس بما كسبت رهينة) – الآية (38)؛ المدثر -.

فالتزكية هنا مرتهنة بفعل الخير المطلق، وفي الوقت نفسه فإن الإنسان مركب من عنصري الخير والشر، ويعيش مجاهدة مستميتة – لمن يريد – أن ينحاز نحو الخير، حيث يعيش قتالا مريرا مع الشر، وهو تحد له لتجاوز مظنة البقاء في خندق الخطيئة، والوصول إلى مستوى التزكية، ويبقى قرار مطلق للفرد (وهديناه النجدين) – الآية (10)؛ البلد – ولأن الأمر كذلك؛ أي مرتبط بجهد الإنسان نفسه، ومستوى القناعة التي يؤمن بها للخروج من مأزق الشر، فذلك ما يدعوه لأن يسلك مسالك الخير، وما أكثرها؛ فأقلها "إزالة الأذى عن الطريق" بمعنى أن الوصول إلى هذه التزكية ليس صعبا بالمطلق، وهو متاح على قدر كبير من الإمكان، ولكن تبقى قدرة الفرد على تقصي هذا المتاح، مع أنه بين يديه، طوال يومه (نهاره/ ليله) والتحرر من نزعاته وتجاذباته الذاتية، ومغبون من يضيع الفرص المتاحة في حياته اليومية للوصول إلى مظان تزكية نفسه، وتنقيتها من شوائب الأدران، ومزالق الشر.

وفي تبادل الأدوار بين الخير والشر الناتجة عن ممارسات مختلف السلوكيات التي يقوم بها الإنسان، يستطيع هذا الإنسان لأن يصل إلى شيء من الرضى النسبي في مشروع هذه التزكية التي يسعى إليها، وليس معذورا إطلاقا أن يقف عن محاولة مجاهدة النفس للاستمرار في ذلك، وليس من الحكمة أن يسلم الإنسان نفسه - وهذا هو عين الصواب - ولو لشيء يسير؛ من اليأس.

(مَنْ تَزَكَّى..) هاجس معنوي مقلق إلى درجة كبيرة، ولن يوقف هذا القلق إلا مجاهدة النفس في اعتناق سبل الخير والرشاد.