نوافذ: لوحات تُذكرنا بالقتلة!
ترفع الأمُّ المكلومة ثلاث لوحات إعلانية في الشارع الرئيسي، لتجعل قضية ابنتها المقتولة والمُغتصبة قضية مرئية. حدث ذلك عندما تراختْ الشرطة عن مطاردة القاتل الحر في فيلم، "ثلاث لوحات خارج إيبينغ، ميزوري".
يظهرُ المجتمع في الفيلم بصورة غير مُتعاطفة مع الأمّ، بل يغدو مُتحاملا عليها، فهو يأمل أن تكمل حياتها كما فعل زوجها من قبل، لكن الأمّ بحزنها الكثيف تريد الجاني الذي غضّت الشرطة والمجتمع الطرف عنه بعد سبعة أشهر من المحاولة!
بدتْ لي تلك الأمّ التي أدتْ دورها فرانسيس مكدورماند باقتدار مُذهل، مُظهرة وجعها وإحباطها البائس، بدت لي كصورة مكثفة لكل الأمهات اللواتي شاهدنا دموعهن في مقاطع الفيديو الأسابيع الماضية، في حوادث قتل بناتهن من دول مختلفة من الوطن العربي.
لقد استيقظ الأمل في قلب الأمّ اليائسة، بسبب تلك الفكرة المجنونة، كتذكير أخير للشرطة وللناس بأنّ دم ابنتها ليس دما رخيصا.
"محاولات مجانية لن تُعيد لها ابنتها"، هكذا نظر المجتمع للأمر، لكنها كانت تريد ما هو أكثر من الانتقام.. كانت تريد أن تمنع حصول أمر مماثل مع فتيات أخريات.
حتى عندما أحرق أحدهم اللوحات الإعلانية، أخذت تركض بطفاية الحريق، وكأنّها ترفع شبح الموت مُجددا عن ابنتها التي اغتصبت وهي تحتضر!
التحرش والاغتصاب والقتل، عذابات تكابدها النساء منذ بدء الخليقة. هنالك من يريد أن يُرجع تلك الانتهاكات التي تصيبها لمسائل سطحية تعود لثيابها وتبرجها، وهنالك من يُبرر الأمر لأسباب أخرى تتعلقُ بخروجها من جدران البيت الذي يُؤمن لها الحماية التامّة، لكن قلّما يتم التحدث عن جوع الآخر وغطرسته وأمراضه المستشرية، قلّما يتم التحدث عن القوانين التي لم تُغلظ ضد انتهاكات مُتفاقمة، قلّما يتم التحدث عن المجتمعات التي تميل لإنكار أفعال مشينة، من مبدأ أنّ المُعتدى عليها تتلطخ سمعتها وتصبح مثارا للشبهات عوض أن تلحق الشبهات المخزية بالجاني!
شاهدتُ فيلما وثائقيا عن القاتل المتسلسل الأمريكي، "تيد باندي"، الذي قتل 30 امرأة في سبعينيات القرن الماضي بطرق وحشية، وقد أدين بجرائم اختطاف واغتصاب وقتل بشع. كنتُ أحاول جاهدة أن أعرف من أين ينبع الشر ضد النساء. يستعيد الفيلم العديد من المقابلات التي أجريت مع "باندي"، وقد تساءل البعض: لماذا تجمع نتفليكس 100 ساعة من المقابلات التي أجراها صحفيان في ثمانينات القرن الماضي قبيل إعدامه!
رأينا شابا نرجسيا، كئيبا وذكيا للغاية في محاججة الصحفيين، وتساءلنا إن كانت هذه النوعية من الأفلام تصنع حماسا من نوع ما. أعني إن كانت تُحول القتلة لأبطالٍ في أعين المشاهدين، في ظل أنّ الشباب اليوم يُكابدون إحباطات مُتلاحقة، فهل ثمّة أي انتصار هش يُغذي ذكوريتهم الهائجة في الاعتداء على النساء!
في زماننا كنا نرتعبُ ولا ننام بيسر لأيام متواصلة لمجرد أننا شاهدنا مشهدا دمويا في فيلم، بينما نرى المراهقين اليوم وهم يجتثون الرؤوس عن أعناقها، كمن يجتثُ أعشابا سامّة من حقل، ضمن ألعابهم التي تخلق لهم عالما موازيا يفصلهم عن العالم الحقيقي.. تلك القصص التي تخلدهم كأبطال قتلة دون أن يرف لهم جفن!
ترى سيمون بوفوار في كتابها "الجنس الآخر" بأنّ مصير المرأة كان قاسيا منذ الجماعات البشرية الأولى، فالمرأة تُجسد الألغاز المُقلقة الكامنة في الطبيعة، ويقول فيتا غورس: "هنالك مبدأ خير انبثق من النظام والنور والرجل، ومبدأ شر خلق الفوضى والظلمة والمرأة".
فالمرأة باعتبارها قرينة الظلمة تتعرض للقتل، ليس بالضرورة بجز الرأس، وإنّما عبر القتل المعنوي أيضا. يتجلى الأمر في إعدام قدرتها على العيش السوي، مخافة كلمة "طالق"، مخافة فقدان حضانة الأبناء، مخافة مجتمعات غير مؤازرة وغالبا مُؤنبة!
لسنا إزاء اصطفاف مجاني، فثمة رجال يُعنفون أيضا وقد يقتلون على أيدي نساء، إلا أنّه ليس بحوزتنا إحصائيات واضحة.. لكن المؤكد أنّ المرأة التي تُحاول بصورة دؤوبة تحقيق خلاصها الفردي من سُلطة متوهمة، بحاجة دائمة لأن ترفع لوحات إعلانية، تُذكرُ فيها بالنساء اللواتي أزهقت أرواحهن، بينما المجتمعات تنبشُ في مبررات جاهزة للقتلة!