نوافذ :لماذا نفكر في المطلق؟
أحمد بن سالم الفلاحي
تنشئ الثقافة صراعا خفيا تغازل به الذات على امتداد حياة الفرد، هذا الصراع يتبلور حول قضايا كثيرة تمس حياتنا اليومية، ومن هنا تتجسد صورة «حمّالة الأوجه» التي نقع فيها وتحرجنا في مواقف كثيرة، فالذات بقدر تأصيل منشئها، إلا أنها في الوقت نفسه خاضعة لتأثيرات الثقافة، وتكاد تنصهر بين متونها الظاهرة والخفية، وإلا لما رأينا تأثيراتها على واقع الناس في مختلف شؤون حياتهم، ولما رأينا ذلك التحول الجذري، وإن بدا ظاهريا، في سلوكياتهم، وأنشطتهم المختلفة.
ويأتي التفكير في الـ«مطلق» أو المثالية بمعناها القريب، انعكاسا لتأثيرات الثقافة أكثر منها منابع الذات المتأصلة، والدليل على ذلك، وعلى مستويات فئات المجتمع، فليس كل الفئات تعنيها أن تكون تصرفاتها مثالية، حتى لا تصوب إليها أسهم النقد - على سبيل المثال - فأغلب الفئات في المجتمع تتصرف تصرفا فطريا مباشرا، ولا تضع أية حسابات أخرى لتصرفاتها المختلفة، ولا يهمها، في المقابل، أن يقال عنها كذا وكذا، فهي تنطلق بوحي الفطرة لا أكثر، فمفهوم «الأتكيت» غير حاضر على ذاكرتها على الإطلاق، وهذا النوع من الناس، ربما، يكون أحسن حالا من الجانب النفسي، عن غيره من فئات المجتمع الأخرى.
والقصة أكثر لا تتمحور حول توظيف المثالية للوصول إلى الصورة المطلقة، الخالية من أي عيب، وإنما تذهب إلى كثير من السلوكيات التي نريدها، وأغلبها تلك التي نرجوها من الآخر في تعامله معنا، وفي المقابل، لا نريد أن نكلف أنفسنا لنقابل بها الآخر، فالصورة المطلقة ثمنا ثقيلا ليس في مقدور كل واحد دفعه، لأن هذا الدفع يشمل التنازل عن كثير مما نؤمن به من قناعات، ومكاسب من الخبرة، ومن الرؤى، والاستنتاجات التي توصلنا إليها طوال مسيرتنا في هذه الحياة.
والسؤال المطروح هنا، لماذا نفكر في المطلق أكثر من الإيمان بوجود النسبية؟ هل لأن فيه تحقيقا لذواتنا فقط؟ ومصالحنا فقط، لماذا نطلبه من الآخرين أكثر من أن نبادر به من أنفسنا؟ حيث إنه مطلوب من الآخرين: أن يكونوا أكثر صدقا، وأكثر أمانة، وأكثر وفاء، وأكثر تعاونا، وأكثر تغاضيا عن الأخطاء، وأكثر محبة، وأكثر بذلا، وأكثر إخاء، فهذه كلها مثاليات مكتملة البناء، يدفعها الطرف الآخر، متجاوزا الكثير مما هو يشعر به أيضا من غبن، لأنه بقدر ما نطالبه نحن بذلك، فنحن في المقابل، لا نبادله إلا بأنانيتنا المطلقة ليس أكثر، وهذا لا يمكن أن يكون، فمفهوم الـ «السوبر مان» حيث القوة أو «الإنسان الأعلى» حسب فلسفة نيتشه، لا يمكن أن يتحقق على الواقع، وبالتالي فالمثالية (وهي المطلق في الأفعال والتصرفات) التي نريدها من الآخر، يبقى من المضحك المبكي أن ننتظرها من الآخر على حساب أنانيتنا المطلقة.
لذلك يخوننا التنظير كثيرا حول هذه الصورة، ونكون في نهاية المطاف محرجون كثيرا أمام ذواتنا، لأن الأفعال المطلقة، وإن اقترب البعض من تحقيقها لظرف مشجع ما، فسيكون ذلك مرهون بظرفه فقط، ولا يمكن أن يكون على امتداد خط التعاون القائم بين الناس إلا ما لا نهاية، ولذلك تبقى الحالة النسبية هي الصورة التي يمكن الارتهان عليها، فهي الحالة الفطرية الشائعة، والمقبولة، والمتبادلة في الممارسات والسلوكيات المختلفة.