نوافذ.. لا تضّنوا عليه بالمال ولا بالمحاسبة!
في رحلة العمل التي قادتني منذ سنوات إلى تلك الجزيرة الصغيرة المُسماة سنغافورة، والتي تردم البحر لتوسع رقعة مساحتها، وقعتُ تحت سطوة الذهول بسبب التحولات التي حدثت بها خلال ستين عاما، لتصبح أعجوبة القرن الواحد والعشرين كما يطلق عليها الآن، لا سيما إذا ما عرفنا أنّها منذ ستة عقود وحسب، كانت تُكابد العوز جراء الفقر المدقع، وتنتشر فيها العصابات ويشرب أهلها من مياه الصرف الصحي، لكنها وفي زمن استثنائي أصبحت سنغافورة الدولة الأعلى دخلا في العالم.
عندما سألتُ المرشدة التي رافقتنا أيام الرحلة: كيف يمكن لبلد يُقاسي رعب الانفصال عن ماليزيا في عام ١٩٦٥م، أن تذهب لهذه القفزة المُتسارعة نحو التمدن والتطور لتفوق دول العالم الأول؟ فكان جوابها: في ذلك الوضع الصعب قرر رئيس الوزراء "لي كوان يو" أنّ الحل الوحيد يكمن في التعليم، لنقل البلاد من دول العالم الثالث إلى الأول، فدُرب المدرسون وأُرسلت البعثات، ورُفعت رواتب المعلمين لتصبح أعلى رواتب في الدولة.
كان رئيس الوزراء في مواجهة شرسة مع البطالة وأزمة الإسكان والفساد الإداري والركود الاقتصادي، ولكنه أراد أن يبدأ بملف التعليم، مُراهنا على أنّه ما إن يُصلَح التعليم ستصلح القطاعات الأخرى تباعا، وهذا ما حصل حقا كمعجزة، إذ خلال سنوات فقط أصبح التعليم هو الأفضل في العالم، وما إن تحسن التعليم حتى تحسنت الحياة على الأصعدة كافة.
علينا أن نتفق أن دولا عديدة من العالم المتأخر، التحقت بركب العالم المتحضر قياسا بأدائها المُتفرد في صياغة استراتيجيات التعليم، فضرر انحدار العملية التعليمية، لا يؤثر على أفراد بعينهم وإنّما على أجيال متلاحقة تُشكل حاضر المجتمعات ومستقبلها.
وعلينا أن نسأل الآن: ما أولويات التعليم لدينا في عُمان؟ وهل ننفق بشكل كافٍ لتمكين هذا القطاع؟ وإن كنا نفعل ذلك حقا، فأين تذهب مخصصاته المالية؟ وكيف تنفق؟ وأين خططه من أرض الواقع؟ إن كانت بعض المدارس تفتقر للحد الأدنى من التجهيزات؟ الأمر الذي يضطر بعض المعلمين والطلبة إلى أن يدفعوا من جيبهم الخاص لترقيع المسألة؟
المسألة لدينا معقدة ومتداخلة ابتداء من الفصول الدراسية المحشوة بأعداد فوق الحد الطبيعي، وليس انتهاء بالأساتذة المتذمرين من نصاب حصصهم المرتفع، روح التذمر تسود حقل المعلمين والطلبة والأهالي القلقين من مشهد سوداوي، فربما شاهد أغلبنا المُعلم المُنهك بإحصاء سنواته المتبقية لبدء حفلة التقاعد، ذلك الكائن المُكبل بالأعباء، التي تطارده من المدرسة للبيت، وحتى لأيام إجازته الأسبوعية وهو يخرج بحثا عن مُحفزات صغيرة يصنع بها يوم تلاميذه من جيبه الخاص.
المعلم المسحوق بصورة غير محتملة، بدفاتر التصحيح والتحضير اليومي، الاختبارات والمشاريع والأنشطة، مصاب بالشلل، فهل لنا أن نلومه عندما لا يبدع ولا يبتكر ولا يُمتع الطلبة بأساليب التعليم الحديثة؟ فليس على سبيل المبالغة لو قلنا: ما نحصده في السنوات الأخيرة هو طلبة ومعلمون مُصابون بمرض اللامبالاة، فقد فاض بهم الحد!
عندما استوعبت سنغافورة ضآلة مواردها واقتصادها الضعيف، تأكدت أن رأس مالها الحقيقي هو الإنسان، فمهما استبدت ظروف الزمان وقسوته، فإن هذا الإنسان المُمكن معرفيا، سيرفع من قدرها كما رفعت هي قدره يوما.
فرغم أنّ "عدد السكان في سنغافورة لم يكن سوى 4.6 مليون نسمة (2007)، فإن أكثر من 20000 طالب سنغافوري يغادرون سنغافورة في كل سنة من أجل متابعة دراساتهم العليا في دول أخرى"، بينما نحن نقلل من عام لآخر نسبة الابتعاث للخارج، نقلل من فرص اكتسابهم أحدث المعارف التي تمضي بتسارع في شتى المجالات، مما يصيب التعليم ما بعد المدرسي بالتكلس.
"التغيير الذي يطرأ على التعليم في مدارسنا، سيمتد إلى مركز الجاذبية، ففي عالم التربية يصبح الطفل هو الشمس التي على محورها تدور نُظم التعليم"، هذا ما قاله الفيلسوف جون ديوي: في كتابه "المدرسة والمجتمع"، فالتعليم كالطاقة المتجددة، طاقة التي لا تنضب، وغالبا ما تُؤتي أكلها.
مشهد التعليم لا يصنعه فرد واحد، نظن أننا بمجرد إزاحته يستقيم الاعوجاج، فنحن أمام منظومة متكاملة لا ينبغي لها أن تتراخى في أي حلقة من سلسلة حلقاتها المتصلة، ولذا فهذا أهم قطاع ينبغي ألا يُضنّ عليه بالمال أو الرقابة والمحاسبة.