نوافذ: كيف ستغدو نسخة حياتنا المُصححة؟
من منا لم يرغب يوما بتبديل قصّة حياته؟ من منا لم يرغب بإزاحة فصول منها أو إضافة فصول إليها؟ من منا لم يرغب يوما في العودة بالزمن إلى الوراء لمحو بشر دخلوا قصّة حياتنا أو إعادة آخرين سمحنا لهم بالخروج منها؟ نرغبُ أحيانا برحلة مماثلة لنخفي من الوجود كلمات نطقنا بها أو نُغلق آذاننا عن سماع كلمات سنحتفظ بأثرها إلى الأبد!
لقد انشغلت العديد من القصص والروايات والأفلام بتلك الفكرة المُعذبة، وأغلب تلك الأعمال -باختلاف حدة الخيال فيها- كانت تنتهي إلى خلاصة واحدة مفادها أنّ أي تغيير في الماضي بالطريقة التي نراها مثالية ليس بالضرورة أن يُحدث أثرا إيجابيا في المستقبل!
لقد كانت دهشتي الشخصية الأولى مع هذه الفكرة عند مشاهدتي لفيلم Back to the future، فحتى وإن لم يكن هذا الفيلم هو الأول عن السفر عبر الزمن، إلا أنّ هذا الفيلم كما قرأت: «خلق قواعد السفر عبر الزمن» بالمعنى الدرامي، ولا تزال تلك القواعد قائمة حتى اليوم.
نجد ظلال هذه الفكرة في المسلسل المصري الكوميدي «الصفارة» الذي تدور أحداثه حول شخصية أحمد أمين «شفيق» الموظف في شركة السياحة، الذي يحلم بالترقية الوظيفية التي ستغير حياته عبر طرحه لفكرة «سواح» لخدمة السياح القادمين إلى مصر، ولكن يتم إغلاق دورة المياه على «شفيق» في ليلة الحفلة من قبل صديق ثقيل الدم، فيفوتُ عليه تقديم فكرته، وبالتالي تذهب الترقية أدراج الريح! لكن وبواسطة «صفارة» توت عنخ أمون الأثرية يحاول «شفيق» أن يعود إلى ليلة الحفلة لمدة ثلاث دقائق، ليُحدث تغييرا طفيفا في الماضي، الأمر الذي يُغير المستقبل تباعا بصورة لا يمكن التكهن بها!
فتبدأ رحلة السعي المحموم لتبديل قصّة حياته عبر العودة المستمرة للاشتباك بالماضي، لمحو شيء أو إضافة شيء، لكن كل تلك المحاولات لم تزده إلا شقاء وبؤسا!
أتذكر الآن بوضوح عندما وصل «شفيق» لحياة محفوفة بالنعيم والبذخ تساءل بتعجب قائلا: « فين الخازوق»، إذ لم يعد من الممكن أن يتصور رغد العيش دون «خازوق»! لقد بدّل قصّة حياته إحدى عشرة مرّة وفي كل مرة كان ثمّة «خازوق» في انتظاره!
تذهبُ أغلب الأعمال التي شاهدتها حول فكرة السفر عبر الزمن ومن بينها مسلسل «الصفارة» إلى ضرورة العمل في «الحاضر»، باعتباره الشيء الوحيد الذي نملكُ يدا فيه، أما تكثيف سفرنا إلى الماضي عبر التخيل أو المجاز، فلا يفعل أكثر من إحداث شرخٍ في جوهر حياتنا، فمهما دأبنا على تصحيح الماضي، فلا يمكننا حسم المستقبل أو القبض على سيلانه ودفق توتراته، كما لا يمكننا الجزم بدقة كيف ستغدو نسخة حياتنا المُصححة!
بالتأكيد لا يمكننا بسهولة دحض الندم واللوم والمبالغة والحساسية التي تعتمل فينا إزاء ما اقترفناه في الماضي لكون هذه المشاعر من صميم ذواتنا البشرية، ولكني أظن أن أحد أهم الأشياء التي يمكن أن تُهون علينا الأمر هو أن نتعاطف مع أنفسنا، أن نغفر لها؛ لأن بقاءها مُعلقة في جحيم الندم وهو أحد أهم أسباب اشتباكنا المريض مع الماضي.
وإن ظن هيرمان هسّة بأننا لن نحظى بالسعادة إلا حينما لا نطلب شيئا من الغد، فإنني أرى أيضا أننا لن نختزل منابت أوجاعنا وآلامنا إلا عندما نتوقف ولو قليلا عن طلب شيء ما من الماضي، وأن «نكتفي بالامتنان لما يجلبه لنا اليوم».
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى