نوافذ .. كم ثمن هذه الأشياء؟
هل علينا أن نُصدق فولتير الذي يقول بأنّ الإنسان يصبحُ حرّاً في لحظة تمنيه ذلك؟ ربما يُصبح حُرّا حقا ولكن في مخيلته وحسب! فنحن "أحرارٌ باختيار أعمالنا، لكننا لسنا كذلك فيما يتعلق بتداعياتها" كما يقول ستيفن كوفي.
"سيكون تاريخنا هو ما نصنعه الآن، وعندما يُشاهدنا المؤرخون بعد خمسين أو مائة عام، سيجدون دليلا على الهروب والعزلة عن حقائق العالم الذي نعيش فيه" بهذا المشهد يبدأ فيلم الممثل والمخرج الأمريكي جورج كلوني "good night and good luck"، وهو الفيلم الذي يُعيد تمثيل خطاب ألقاه صحفي الإذاعة الأمريكية الشهير إدوارد روسكو مورو في مؤتمر مديري الأخبار في الإذاعة والتلفزيون عام 1958.
ينهض الفيلم على قصة حقيقية حدثتْ في خمسينيات القرن الماضي، حيث واجه مورو، إجراءات السيناتور جوزيف مكارثي الذي حاول تطهير الولايات المتحدة من المتعاطفين مع الشيوعية. "وعلى الرغم من ضغوط الشركات الراعية، كرّس مورو نفسه لكشف أكاذيب وتجاوزات السيناتور مكارثي، باستخدام لقطات أرشيفية، وواقعية درامية ووثائقية وصور فوتوغرافية ومشاهد بالأبيض والأسود"، وقد دافع مورو عن الصحافة وحريتها بكلمته المشهورة: "لن نسير ونحن نخاف من بعضنا البعض"، حيث رأى بأنّ "خضوع وسائل الإعلام للدعاية وتفوق الترفيه يُبعد المشاهد عن التفكير والتشكيك في طبيعة الأحداث اليومية".
يقول مارتن لوثر كينج: "لا يستطيع أحدٌ أن يمتطي ظهرك إلا إذا انحنيت له"، وقد كشفتْ لنا العديد من الأفلام أنّنا في زمن الانحناء المشروط، متنكرين لمقولة لينكولن: "من ينكرُ الحرية على الآخرين لا يستحقها لنفسه"!
ينتقد فيلم "spot light" الصمت الذي شجّع على استمرار الانتهاكات الجنسية التي قام بها قساوسة في أبرشية ضد الأطفال لمدة 10 سنوات. كانت فضيحة كبيرة ضد الكنائس، لدرجة أنّ صحيفة "بوسطن جلوب" بنفسها لم تكن بالجرأة الكافية لكشف المستور في بادئ الأمر!
وبينما نرى أنّ العمل الإعلامي بأشكاله المختلفة المشاهد منه والمسموع والمقروء، مُتراجعٌ الآن -عالميا- أمام آلة التواصل الاجتماعي، فإنّ مخرج فيلم "spot light" توم مكارثي لا يرى ذلك أبدا، بل على العكس يجد أنّ "الفرصة مُتاحة اليوم حتى تكشف وسائل الإعلام عن العديد من الأسرار، رغم أنّ الأمر قد يبدو صعبا في الواقع، فهذا العصر هو المناسب للخوض في قضايا الفساد، لأنّ للصحافة دورا خطيرا في المجتمع". ويرى مكارثي أنّ المواطن العادي لا يمكنه حل المشاكل عن طريق نشرها في مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك، فلا يمكنه أن يتفرغ لأسابيع وشهور من أجل متابعة سير القضايا وتسجيل مقابلات مع الناس، فللأغلبية منّا وظائفهم وحياتهم الخاصة، بينما هذا هو ما ينبغي أن يقوم به الصحفي الحذق.
يقول نيتشه: "الحرية هي الرغبة بأن نكون مسؤولين عن أنفسنا"، ولذا عندما تفجرتْ خلال عهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، تفاصيل السياسة الأمريكية في حرب فيتنام، وتكشف تورط أسماء معروفة بالأمر، بدأتْ محاولات جادة لتضليل الرأي العام حول حقيقة ما يجري في فيتنام، ورغم عدم تورط نيكسون بالأمر فإنّه رفض النشر، لكن صحيفة واشنطن بوست تصدرت المشهد حين حصلت لاحقاً على مجموعة كبيرة من الوثائق لتلك القضية، وقد شاهدنا ذلك في فيلم The Post من إخراج ستيفن سبيلبرغ.
وأمام تسعة قُضاة انتصر ستة منهم لحرية الصحافة، إذ كان قرارهم: "الآباء المؤسسون منحوا الصحافة الحرّة الحماية التي يجب أن تحظى بها للوفاء بدورها الأساسي، وهذا لأنّ الصحافة في خدمة المحكومين، وليس الحكام".
وبما أنّ "كل شيء عظيم خلقه إنسان حرّ"، كما يقول أينشتاين، فعليّ أن أستعيد قوّة الشابة "سكيتر" في الفيلم المأخوذ من رواية الكاتبة كاثرين ستوكيت "the help"، والتي تقع أحداثها في ستينيات القرن الماضي حيث تجري الصحفية حوارات سرية مع الخادمات اللواتي تعرضن للعنف من قبل المنازل التي يعملن بها بعد أن اشترطن عدم كتابة أسمائهن. تتعرض الصحفية ـ البيضاء ـ للتهديد بتهمة تشويه المجتمع، وإتلاف قشرته اللامعة. لكن الكتاب يأخذ حيزه من الضوء والتأثير لاحقا.
أعتقد أنّنا بحاجة ماسّة للأخطاء الناتجة عن خياراتنا، فهي بالتأكيد أفضل من الصواب الذي لم نختبره بعد! وعليّ أن أنتهي حيث انتهى سؤال غاندي: "الحرية هي روح الإنسان وأنفاسه، فكم ثمن هذه الأشياء؟"
* هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى