نوافذ : قوى اللامركزية

16 يناير 2022
16 يناير 2022

كلّما ابتعدنا عن مركزية العاصمة مسقط، تبدى لنا أنّ العثور على خدمة جيدة أمرٌ غير يسير، ابتداء من دورة المياه وليس انتهاء بمطعم جيد! ولذا من المؤكد أن تغدو "اللامركزية هي أكثر من مجرد عملية عابرة، فهي طريقة للعيش وحالة ذهنية".

وها نحن الآن نقطعُ مرحلة من المركزية الأحادية للعاصمة مسقط، لصالح تعدد جديد يُلقي بظلالٍ وارفة على إحدى عشرة محافظة من سلطنة عُمان، نمضي برهانٍ جديد على من تمّ إيلاؤهم الثقة لإحداث التغيير الذي نصبو إليه، وذلك عقب التوجيه السامي الذي نصّ على منح عشرين مليون ريال عُماني لكل محافظة من محافظات السلطنة خلال سنوات الخطة الخمسية الحالية (2021-2025)، الأمر الذي يجعلنا نستشعر جرعة من التفاؤل بمواكبة السلطنة لتحولات العالم السريعة.

اللامركزية التي ننشدها الآن هي تنظيم إداري قائم على فكرة ديمقراطية، فنحنُ في أمس الحاجة لتحريض التنافسية اللائقة بين المحافظات، فكل واحدة منها تعد كنزا ثمينا ومُخبأ، فقد يكون امتياز المحافظة صناعيا أو سياحيا أو اقتصاديا، ضمن أنشطة بحرية أو زراعية أو تجارية، ولذا سيتحتم على المُحافظ مُهمة صياغة خطة محافظته، خطة مستقلة ومُستلهمة من إمكانيات الولايات ومواردها، ليتمكن من إحداث الفرق. وهو أمر لافت حقا، وسيجعلنا في ترقب حثيث لمجريات ما قد يحصل خلال السنوات الخمس القادمة.

من جهة أخرى سيخفُ العبء الذي ترزح مسقط تحت أحماله الثقيلة، كما يمكن للعديد من المشاكل المُركبة -التي تتبدى في أبسط صورها في الزحام على الخدمات والشوارع- أن تخفت قليلا أيضا.

المسألة أبعد من أن تصرف المحافظة عشرين مليونا على مسائل خدمية، إذ نتطلع مستقبلا أن تصير المحافظات قادرة على جني ثمار العوائد القادمة من الطاقات الشبابية والأفكار الجديدة المغامرة، فالكثير من الأفكار عرقلتها البيروقراطية سابقا وحبستها في الأدراج، وآن لها أن تخرج وأن تكشف عن نفسها. خصوصا بعد أن بات من حق المحافظة "أهلية تملك الأموال الثابتة والمنقولة وإدارتها، والتصرف فيها"، ضمن نظام لا مركزي مرن.

وكما يبدو فإن الملف الشائك الذي يواجه كل المحافظات الآن هو ملف الباحثين عن عمل، فكيف يمكن إيجاد فرص عمل وتمكين للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يُشغل المحافظات.

وقبل كل شيء ينبغي أن تُفتح أعين المحاسبة الواعية، فالمسؤولية الجديدة سترينا المسؤول إن كان في مكانه المناسب أم لا، فالعمل سيكون تحت الأعين وسيرصده المواطن واقعيا في حياته.

لطالما اعتبرت "اللامركزية" في أوقات مختلفة حلا لمشاكل كثيرة أهمها التدهور الاقتصادي أو الانخفاض في أداء الخدمات عبر القطاع العام المثقل بالأعباء، وها هي الآن جميع المحافظات في قلب عملية تنموية جديدة، تنهي شكلا سابقا من التمايز والتفاوت غير المبرر بينها، وها نحن في مرحلة حقيقية من التمكين في صنع القرار، نأمل أن يتم استغلاله على الوجه الأمثل.

يقول المنظر السياسي ألكسيس دو توكفيل: "اللامركزية ليس فقط قيمة إدارية، بل أيضا بُعدا مدنيا؛ لأنّها تزيد من الفرص المتاحة للمواطنين للاهتمام بالشؤون العامّة؛ فيجعلها تعتاد على استخدام الحرية، ومن تراكم هذه الحريات المحلية والنشيطة والنشطة، يولد الثقل الأكثر كفاءة ضد مطالب الحكومة المركزية، حتى لو كانت مدعومة بإرادة جماعية غير شخصية".

وتقترن اللامركزية أيضا باهتمام متزايد بدور المجتمع المدني والقطاع الخاص كشركاء للحكومات في البحث عن طرق جديدة لتقديم الخدمات، ولذا نأمل أن تضع اللامركزية الجديدة البلاد على سكة التحديث الاقتصادي والإداري، ضمن رؤية عمان 2040، فالحياة تقترح دائما أن نبادلها التجريب والاختبار والتعديل للوصول إلى صيغة مرضية".