نوافذ: «فوي فوي».. أيها الخلاص!
يحتجزنا التردي الاقتصادي، باعتبارنا «طبقة وسطى» في تخبط مُضنٍ، دون يقين بأسباب انحدار نمط معيشتنا، الأمر الذي يجعلنا أمام خيارين، يتمثلُ أحدهما في إطلاق العنان للخيال والتمنّي، أو الإعلاء من نبرة الهجرة إلى أراضي الفرص، وهذا ما رجّحه أبطال الفيلم المصري «فوي فوي فوي»!
حرّضني الخبر الذي أعلنته نقابة المهن السينمائية في مصر عن اختيار هذا الفيلم للمنافسة على جائزة الأوسكار ضمن فئة أفضل فيلم أجنبي، على الذهاب لحضوره، باعتباره: «الأكثر تماسكا على مستوى الإخراج والسيناريو والديكور وأداء الفنانين». حيثُ ينسجُ الفيلم قصّة اللهاث البشري لجعل الحياة أفضل. فكما يبدو نحن «نعيش في متاهة تغيّر الواقع الذي يمنعنا من استقراء الأحداث التي تمر بنا»، هذا ما يذكره كتاب «الاقتصاد العالمي الخفي»، للوريتا نابوليوني، والصادر عن دار العربية للعلوم ناشرون. تجد نابوليوني أنّ البيئات المتخيلة تتسع في أوقات الشظف لأنّ الانحطاط الاقتصادي ينخر المجتمع المدني، ويُموه الواقع، ويُعيد تشكيل بيئة غير واقعية من حولنا، وربما يكون هذا هو ما دفع أبطال الفيلم لأن يتلبسوا لبس العمى!
عبر كوميديا سوداء ساخرة، يُناقش الفيلم في صميمه قضية الهجرة غير الشرعية، فلقد استقى المؤلف والمخرج عمر هلال، فكرته من قصّة حقيقية، كُتبت في الصحافة عام 2015، «حيث سافرت بعثة للمكفوفين إلى بولندا للمشاركة في البطولة الدولية لكرة الجرس، إلا أن أفراد البعثة هربوا قبل المشاركة، وتبيّن لاحقا أنهم مبصرون، وكشفت التحقيقات تورّط رئيس النادي ومسؤولين في اتحاد رياضات المكفوفين في القضية، حيث دفع كل لاعب مبلغ 50.000 جنيه مصري نظير الحصول على تأشيرة»!
والسؤال: أعلينا أن نُدين الكذبة، أم علينا أن ننظر وراء ظروف نشأتها بشفقة؟
يُحذرنا التاريخ من أن التفاوت المتطرف في الدخل له آثار مدمرة على المجتمعات، إلا أنّ هنالك من يضع «العصي في عجلات الحراك الاقتصادي»، إلى أن نفقد ما تطلق عليه نابوليوني «البوصلة الأخلاقية».
لم يرغب «غاتسبي العظيم» في تغيير العالم وإنّما القفز فوقه، كما فعل بطل الفيلم تماما عندما ادّعى أنه ضرير، ليكتشف أنّه لم يكن وحده في هذه اللعبة الخطرة. تشير نابوليوني إلى أنّ «السعي وراء تغيير الحياة، سحق النوازع الأخلاقية، وسهَّل التلاعب المشبوه من أجل المال».
ثمّة ما تغيّر من حولنا حقا، ولكننا لا نرصده كما ينبغي، نُفضل في الغالب تجاهل قبضته المستشرسة، ففي الشارع لا تدور الأحاديث اليوم إلا حول: فواتير الكهرباء والماء والمشتريات اليومية التي تطبقُ قبضتها على خناق الراتب الهزيل. إننا نقعُ ضحية محاولة جعل العالم أرخص من حولنا، «فالتضخم يُغيّرُ الطريقة التي يفكر بها الناس تجاه حاجياتهم». بات كل واحد منا يُعيد التفكير في الأماكن التي يذهب إليها، يُفكّر بعدد المرات التي يخرج فيها لنزهة، وقود السيارة الذي سينفقه، والضريبة التي تصعد على ظهر مشترياته، لدرجة أنّ أحدنا قد يسأل «فيما لو كانت حياته طبيعية على هذا النحو؟».
من الأكيد أننا لسنا وحدنا، تقول نابوليوني بأنّ «العالم مُبتلى بالتضخم» إلا أنّ ما يُصعب الأمر هو أفول نجم الطبقة الوسطى التي تُعلي قيم التعليم والمعرفة، لنغدو فجأة مهووسين بالمشاهير وقصصهم التافهة، «لمزيد من الغرق في أحلام اليقظة وإنكار الواقع»!
لم تخبُ قوة اللقطة البصرية في الفيلم، فقد عكست بؤس الشوارع والبيوت بأثاثها المتواضع، والعوائل الضاغطة، وتخلي الحبيبات. إلا أننا نتّفق بصورة كبيرة مع ما ذهب إليه الكاتب أحمد كامل الذي حلل تصريح أداء بطل العمل محمد فراج، باعتباره شخصية بسيطة وغير مركبة، «لم تتمكن من استبصار الصراعات التي دفعت الشخصية إلى هذا التظاهر». لم ينجح المخرج في تعميق ألم الشخصيات ودوافعها الأكثر ديناميكية، كما أنّ مسحة التعاطف بينها وبين ذويها بدت ساذجة. يرى كامل أنّ مرد ذلك يعود إلى «ضعف مستوى الكتابة» الذي ألقى بظلاله على التفاصيل الصغيرة، رغم توفر القصّة والحبكة التي تنهض عليها المفارقات. إلا أنّ مشهد الركض الجماعي في نهاية الفيلم وخلع معالم العمى، كانت لاستبصار أمل مُخبأ، وكأن كل واحد منهم يتمثل كلمة «فوي» الإسبانية والتي تعني «أنا قادم»، ويستخدمها اللاعبون لتفادي الاصطدام. لقطة عميقة للانفلات من كل شيء، تاركين وراء ظهورهم حياة كاملة من الخيبات.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى