نوافذ: عندما يتجاوز الأنف وظيفة الشمّ!
يتجاوز الأنف وظيفته المعتادة «الشمّ»، ليُعبر عن مكانة اجتماعية تقع بين الحظوة أو النبذ.. هكذا تنمو الفكرة وتتشابك في ثلاث قصص ينتمي كلّ منها إلى زمن مُغاير في رواية «دائرة التوابل»، للكاتبة الإماراتية صالحة عبيد والصادرة عن دار المتوسط.
القصّة الأولى هي قصّة «شريهان» التي تشعر بالتهديد عندما تُحرم من اللعب جوار سور المقبرة، «شريهان» التي تُميز الأجساد بدقة من روائحها. الأمر الذي يمنع تعاملها بشكل مجرد مع الحياة، فقد وُلدت بأنف مُفارق لأنوف العائلة، فلاقت النبذ مبكرا! حظيت باسم «شريهان» الممثلة الجميلة التي تضج بالحيوية والحياة وتتمتعُ بأنف دقيق، لكنه أصبح اسما لبنت ترغبُ بإصرار في الالتصاق بفكرة الموت والاشتباك برائحة «الفورمالديهايد»!
القصّة الثانية هي قصّة «شمّا» التي ولدت جرّاء عطسة في عشرينات القرن الماضي بدبي، فأصبحت لا تتعرف على الدنيا إلا من خلال أنفها أيضا، ولعلها تذكرنا بحياة «غرونوي» في رواية «العطر» لباتريك زوسكيند، الذي يُحركه شغفٌ لا متناهٍ تجاه الروائح، إلا أنّ صالحة عبيد تتجاوز وظيفة الشمّ بجرأة لافتة، فتقدم الأنف باعتباره مشنقة الأحكام المسبقة، فالأنف كما الشعر الأكرت كما الشفاه الغليظة كما اللون الغامق، يختزن معنى نتواطأ عليه!
تحس «شمّا» وترى من خلال الروائح، تميزُ التوابل وكأن «إرث الحرفة ينتقل في الدم»، تُمرر أنفها وطرف لسانها لتعرف الأشياء، غير أنّ الشمّ لم يكن ليمنحها فرصة مغادرة اليابسة فمكانها محدد. وعلى نقيضها كان أخوها «عزيز» الذي تمتع بأنف دقيق لكن ليس ذا جدوى في مهنة التوابل!
وبينما تلهو «شمّا» مع عبود «بو راسين» كما يُكنى لضخامة رأسه، تلهو شريهان في زمن آخر جوار جدار المقبرة مع ناصر الذي تمتع هو الآخر برأس كبير، وكأنّ القدر ذهب بشمّا وشريهان باتجاه المسوخ!
لأول وهلة تبدت القصة الثالثة ناتئة على جسد النصّ على مستوى الزمان والمكان والموضوع، حيث تستعين الروائية بحكاية الشاعر عبدالله بن المعتز، الذي لقب بخليفة «يوم وليلة»، وهو الذي «لم يلبث سوى يوم واحد في خلافة الدولة العباسية ثمّ هجم عليه غلمان المقتدر بالله فقتلوه»، لكنها تضيف لقصّته من خيالها المحض، فقد سرت رائحة عطونة بحاضرة الخلافة عقب مقتله، وتشارك الناس الكوابيس بشأنه، هنالك أيضا شخصية فاطمة بنت ثابت، التي فقدت الإحساس بالرائحة التي كانت تشمها من ندبات جسد حبيبها نجوان العبد، بعد أن تمّ بعيه، فلقد أدين باختلاط الحضيض بالسمو!
درست «شريهان» التشريح، كامتداد لحلم الطفولة، فهي تتحرر في المشرحة من كل الأعباء، تنمو لديها الرغبة في نزع الجلد لتعرية الأجساد الهامدة، لتطرح أسئلتها حول الموت الغامض والمُعذب. وكما يبدو فالطب الشرعي طريق وعر كطريق النسوة اللاتي يُمنعن من الذهاب إلى المقبرة! هكذا يصبح اختيار التخصص الدراسي و«الأنف» أسبابا كافية لتأكيد نبذها! وعندما نما طفل في أحشائها تساءلت: «كيف لمن هو مشغول بالموت أن يهب الحياة لكائن آخر»، والمفارقة أنّه عندما لم تعد هنالك جثث بدأت في تحويل نفسها إلى جثة!
وبقدر ما تشتبك بدايات القصص الثلاث بالرائحة بقدر ما تشتبك النهايات بالانغماس في الماء. تحلم «شريهان» بأنّها تُلقي برأسها عند مجرى النهر مُتذكرة بيت شعر لشاعر مجهول، وتختار «شمّا» أن تمضي إلى البحر الذي حُرمت منه، وتتحرر جثة عبدالله بن المعتز عندما ألقت بها فاطمة إلى نهر دجلة، فتخلص الناس من رائحة العطونة.
هكذا توظف صالحة عبيد العلامات البائنة والخفية في ثنايا النصّ، لتعبر عن قضية شديدة الحساسية والشراسة في مجتمعاتنا، أعني «النبذ» الذي يعني اغتراب الفرد عن نسيجه الاجتماعي لأسباب لا تتعلق بجوهره، فتستميتُ كل شخصية من الشخصيات لتحرر نفسها من ذنب لم تقترفه! و«كأن الجسد هو من يبتدعُ مظهره أو يخترع الأجساد التي تلده» كما يقول دافيد لوبروتون.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى