نوافذ: عن مباهج الكتابة وأوجاعها
صدمني ردُّ إرنست همنجواي على كاتب شاب عندما سأله: «ما أفضل تدريب يمكن أن يخضع له الكاتب في سن مبكرة؟» فأجاب: «الطفولة التعيسة»! وفي مكان آخر من الكتاب الذي جمعه الكاتب الأمريكي لاري فيليبس، تحت عنوان «مباهج الكتابة وأوجاعها» الصادر عن منشورات حياة، ترجمة: جوهر عبدالمولى، قال همنجواي: «لا بد أن تُقاسي أشد أنواع الآلام قبل أن تُصبح كاتبا جادا»! فإلى أيّ حد يمكن أن نُصدق هذه الأطروحة باعتبار أنّ قائلها كاتب مهم وحاصل على جائزة نوبل عام 1954؟
أتساءلُ إن كان من حقنا تفنيدُ هذه الآراء أو قياسها على واقع جديد! وأيضا ما نوع الألم وطبيعته ذلك الذي يمكن أن يُصير الإنسان العادي إلى كاتب؟
لم تكن هذه هي الفكرة الوحيدة التي استرعت انتباهي، فهمنجواي خائف من تكرار تجارب الآخرين، فكان يأمل -على سبيل المثال- أن يكتب عن «الملاحة الجوية» لكن «فوكنر» فعلها قبله! فما الذي كان سيمنعه من تكرار الموضوع فيما لو كان سيكتبه بطريقته وبأسلوبه الخاص؟
ولن أخفي تعجبي أيضا من نظرته للحرب، بوصفها أفضل التجارب للمادة الأدبية كونها «تُسرع الأحداث وتخلقُ الوقائع»، فهو على يقين بأنّ حياة كاملة قد لا توفر تجربة مشابهة لتلك التي توفرها الحرب! ولذا نجده يغبطُ «تولستوي»، فالحرب شيء لا غنى عنه للكتابة عن الفارين والجبناء والأبطال والخونة.
يسمح همنجواي أيضا لموضوعات الحبّ والمال والجشع والجريمة أن تجاور الحرب ولكن بوتيرة أقل! الأمر الذي ذكرني بحوار جمعني بكُتاب وروائيين، حيثُ تبدت نبرة مُتشنجة تشيرُ إلى أنّه من غير الممكن أن تنمو رواية جيدة في واقع لا يحتدمُ بالقضايا الكبرى والمُعقدة، ولذا -من وجهة نظرهم- تأتي الرواية لدينا مُستترة وراء أقنعة اللغة أو النزوع إلى الماضي!
في الحقيقة أفزعني هذا الرأي أيضا، ربما لإيماننا بأنّ الكتابة في حد ذاتها هي ما تجعل أحدنا كاتبا جيدا لا القضايا التي تحيط بنا! فلطالما أغرمنا بروايات تخلو من هذا الشرط، لأنّ ثمّة ما يجعلها عميقة وذات تأثير.
رغب همنجواي على الدوام في التغلب على أعمال من سبقوه من الكُتاب العظماء، أن يكتب ما لم يكتبه أحد قبله.. موباسان، فلوبير، تورغينيف، دوستويفسكي، ملفيل، ثرفانتيس، كان هدفه منذ البدء هزيمة الكُتاب الموتى! وكدتُ أصدق بأنّ صناعة الخصوم هنا على سبيل المجاز أو الاستعارة، لولا أنّه وصف الاستعارة بأنّها «ذخيرة مُعطلة»!
من الطريف أن نعرف أيضا أن همنجواي كان يتطير من الحديث عن كتاباته ويرى أنّ ذلك يجلبُ له الحظ السيئ: كمن «يزيلُ كل ما تحمله الفراشات على أجنحتها ويقتلعُ ريش الصقر المتناسق»! هكذا يرى الأمر.
وليس عليّ أن أخفي إعجابي ببعض الآراء المهمة في هذا الكتاب، فهمنجواي لا يُفرغ بئر كتاباته كاملا بل يتوقفُ عندما يشعرُ بأنّ هنالك شيئا ما أسفل البئر، يدعه يمتلئ من الينابيع التي تُغذيه. ينصتُ ويُراقب، آملا في تعلم شيء ما، يقرأُ كتب الآخرين لئلا يُفكر في عمله. ورغم ما يؤكده حول أهمية المال فإنّه يراه أيضا من مثالب الطموح إن كان يصنع كتابات زائفة.
يجد همنجواي أنّ النجاح الذي حققه كان دائما من خلال الكتابة عن الأمور التي يعرفها، فهو يذهب إلى المألوف الذي يختبره: «فلا يولد الكاتب متمتعا بالمعرفة، لكنه يولد مفطورا على التعلم بصورة أسرع من غيره.. يُذهل بالكلمات كأنّه يقرأها لأول مرة، ويتمتع برادار الكشف عن النصوص الرديئة».
ولد همنجواي مُصابا بمرض مُريع اسمه «الكتابة»، فهو يُعاني أشد الويلات عندما لا يكتب، يُعاني قبل الكتابة وبعدها، ولكنه في أثنائها يشعرُ بأعظم بهجة يمكن أن يتحصل عليها.
همنجواي كاتب عظيم، وإن كانت له رؤاه الخاصة تجاه توليف نسيج الكتابة، فهو ينفي وجود قاعدة واحدة نحتكم إليها جميعا، ولذا فالسؤال: هل نحنُ أسرى لمقولات قالها الكُتاب الكبار قبلنا، بوصفها مُقدسة! أكادُ أجزمُ بأننا نتمتعُ بحياة وتجارب تقترحُ علينا نظرة مُغايرة حول صميم غايتنا من الكتابة، وحول ما يجعلها أصيلة وفارقة أو دون ذلك؟
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى