نوافذ :ظمأ القراءة والبوكر وزهران القاسمي
Ashuily.com
يعيد لنا زهران القاسمي في روايته (القافر) والحائزة على جائزة الرواية العربية في نسختها السادسة عشرة (البوكر) بعض الارتواء من معين القراءة العذب الذي لا ينضب، حيث إن الثيمة الأساسية التي ركز عليها الكاتب في روايته تجمع بين متناقضين من أن الماء بقدر ما يمكن أن يكون مصدرا للحياة يمكن أن يكون سببا في سلبها وهو ما تدور حوله أحداث الرواية مع بطلها سالم بن عبد الله الذي ولد في الماء ومات بسببه وقضى كل حياته باحثا عنه من خلال مهنته التي حذق فيها وامتهنها وهي مهنة القافر الباحث عن الماء في كل أرض يابسة.
تكوينات الرواية وثيماتها المتعددة تقفز للقارئ في كل صفحة يقرأها وفي كل مرة يفاجئ الكاتب فيها قراءه بأن ما يقرأه ليس سوى معايشة يومية لأحداث حقيقية تتراءى أمام عينيه يعيشها على أرض الواقع من حيث استخدام مفردات البيئة المحلية مثل الفلج والساقية والقافر والنخلة والأرض والماء والمزرعة وغيرها من الأشكال والصور التي ارتبطت بذهن القارئ من خلال معايشته اليومية الماثلة أمام ناظريه واستطاع الكاتب تجسيدها في رواية عبرت عن واقع معاش وإن كان أسطوريا متخيلا لكنه قريب إلى واقع الحياة اليومية.
شخصيا، قرأت الرواية كاملة في يوم واحد فقط فصفحاتها التي تربو على المائتين بقليل كانت بمثابة معين لا ينضب من التشويق والحبكات المتسارعة والمشاهد الجمالية المتوزعة على طرفي خط الرواية الأصلي وبين شخوصها وأبطالها، الأمر الذي كان يحفزني إلى طي الصفحات الواحدة تلو الأخرى وكأنني أعايش قصة حقيقية أنا أحد أبطالها الهامشيين ممن عاشوا على ضفاف قرية عمانية قديمة تتهادى سواقي الأفلاج بين جنباتها وخرير الماء ينساب بين حقولها وحفيف الأشجار ينشر ظله على مزارعها وهذا بالضبط ما قاله رئيس لجنة التحكيم الكاتب والروائي المغربي محمد الأشعري من إن الرواية «اهتمت بموضوع جديد في الكتابة الروائية الحديثة، وهو موضوع الماء في علاقته بالبيئة الطبيعية وبحياة الإنسان في المناطق الصعبة».
الرواية إذن عبارة عن موضوع وقصة جديدة تلهب شغف القارئ وتحفزه على القراءة وتروي ظمأه وتدخله إلى عوالم جديدة تجعله لا يتمنى الخروج منها بسرعة وهذا ما يمكن أن نلمسه من خلال توظيف التراث والمفردات الأثرية والأسطورة والحكاية العمانية القديمة في قالب سردي وروائي يمكن أن يتم الاشتغال على محليته كي يصل إلى العالمية وهذا هو ديدن الكثير من الكتابات العالمية التي تبدأ بقصص تجري أحداثها في قرى ومناطق لها خصوصية محلية تنتشر بعدها إلى العالمية وتعرف تلك الأماكن بسبب شهرتها في روايات أو قصص كانت ذات يوم قصصا محلية يتداولها الأفراد والجماعات في إطار محلي صغير.
ما أكثر القصص العمانية القديمة وما أكثر الأساطير التي رُويت عن أبطال كانوا عبارة عن أشخاص مهمشين أو غير مهمين أو دون ذلك، تناقلت الألسن بعض قصصهم وأساطيرهم وإن لم يتم تدوينها كتابيا لكنها بقيت بطريق الشفاهة والنقل وفي بعض الأحيان يأتي قاص أو روائي أو شاعر يجسد بعض تلك القصص ويرويها للعالم أجمع كمثال على الموروث العماني الثري والخصب الذي قد لا يقل أهمية عن باقي التراث غير المادي الذي تزخر به كثير من دول العالم حين تأتي الحكايات والقصص في مرتبة مهمة من هذا التراث، وما فوز رواية «سيدات القمر» للكاتبة جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر الدولية في 2019 لأفضل رواية مترجمة عن العربية إلى الإنجليزية وتأهل رواية «دلشاد» للقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) خلال العام الماضي وفوز «تغريبة القافر» بهذه الجائزة هذا العام إلا دليل على أن البيئة العمانية بتاريخها وحضورها التراثي والأسطوري قادرة على خلق قصة عالمية يمكنها من نقل الثقافة العمانية من المحلية إلى العالمية عن الإشارة إلى تلك الروايات الفائزة بشخوصها وهذا ما يعد جانبا من جوانب مساهمة الأدب والثقافة والفن في صنع القوة الناعمة لسلطنة عمان وهذا ما تنتهجه اليوم الكثير من بلدان العالم التي تسعى إلى إيصال قوتها باستخدام الفنون والآداب والثقافة.
أعتقد بأننا بحاجة إلى مزيد من التكريم والرعاية لأدبائنا وشعرائنا ومثقفينا ولمزيد من الاهتمام بهم وتسويقهم للعالم أجمع باعتبارهم قوة ناعمة يمكن أن تسهم في نشر كثير من القيم العمانية في العالم أجمع وهو ما نحن أحوج إليه الآن أكثر من أي وقت مضى.