نوافذ: «دينيس» والحكواتي العُماني
عدا ذلك البريق الخاص في عينيها، وذلك الشغف المُحرض على القبض على الحكايات، وعدا هدايا «حيفا» المُبهجة، المنسوجة أو المخطوطة بأيدي الفلسطينيين، فإن ثمّة ما يجعلك مفتونا بقدرة تلك المرأة على أن تحتفظ بروح الطفلة في أعمق ذرة منها، وكأنّما في ذلك حماية ودفاع مستميت، لتتمكن من عبور أسيجة العالم، مُتحصنة بطفولة عفوية من الصعب أن تشيخ.
أتحدثُ عن الحكواتية الفلسطينية دينيس أسعد، ضيفة ملتقى الحكواتي العُماني الأول، الذي نظمه النادي الثقافي، برفقة حكواتيين آخرين لم يُسعفنا الحظ للالتقاء بهم.
ولا أدري لماذا كلّما رأيتُ دينيس أستعيدُ صورة جدتي الحكاءة التي كانت في طفولة بعيدة تُحيط بنا بين ذراعيها، فتدخلنا عالما موازيا لحياتنا الواقعية، عالما تقشعرُ -لفتنته النادرة- أبداننا، ولم يكن يوازي حضورها السحري إلا دخول التلفاز حيز واقعنا.
يدفعني وجه دينيس للندم لأنني لم أسجل عن جدتي حكاية واحدة والذاكرة لم تعد تسعفني سوى بتذكر نتف متفرقة. نعم.. كانت لنا جدّات يمنحن هذا العالم نكهة تعادل ما قد تبثه السينما والوسائط الإلكترونية الآن. يُحدثن بداخلنا فارقا ويشكلن عالمنا الأولي.. حكايات ذهب جلّها طي النسيان!
عندما انطفأت قصص الجدّات القديمات والمتفانيات في قول إرثهن العظيم، جدّة عن جدّة، كنتُ أتساءل إن كان طفل اليوم قادرا على أن يوجد تواصلا بصريا مع فكرة الحكواتي الجديد! إن كانت الكلمات والأداء الجسدي يُحدثان صورا وخيالات وأسئلة في نفسه؟ وإن كان بإمكان الطفل اليوم أن تأسره متعة حقيقية في اتصاله مع إرث قديم! أتساءلُ عن إمكانية التواشج مع الحكواتي في وقت فقد فيه أولادنا التواصل الحميمي والمباشر، لا سيما وأنّ فكرة المسرح لم تتغلغل في ثقافتنا ولا في وعينا العُماني بشكل عميق، فما الذي يُرشح صمود الحكواتي العُماني الجديد؟
«كان الحضور جيدا ولافتا وفاتنا»، كما قالت لي دينيس، وكنتُ أفكر إن كان المُحرض هو الفضول والرغبة في اكتشاف حدثٍ جديد أم أنّه يمكن فعلا وبقليل من التفاؤل، وبالرهان على الوقت أن يُصبح لدينا حكواتي قادر على انتشال حكايات ضائعة وبث الحياة فيها من جديد!
تُحوّلُ دينيس ظرفها الإنساني القاسي ببعديه السياسي والاجتماعي إلى مادة مُبهجة للأطفال، تخْرجُ من صندوق الدنيا بزيها الفلسطيني، مُحركة يديها وجسدها، كمن يُجسد دورا في مسرحية.
سأتذكر ما قالته في لقائنا الأخير والمُحبب عن أنّ الحكاية مثل الصخور التي تمر عليها الأزمنة، فتنحتها عوامل التعرية المستمرة وتعيد تشكيلها، كمن يُعيد تشكيل الحكاية ليُضفى إليها بُعدها الجديد. فبعض الحكايات تروج لقيم رديئة مثل العنصرية والتطرف، وهنا ينبغي أن يحضر الفهم والتفنيد، لنعرف ما يمكن أن يصل لأوعية أبنائنا اللاقطة.. علينا أن نعي أنّ التراث مُلغم أيضا.
وقبل أن يكون لدينا حكواتي، علينا أن ننجح في كتابة تاريخ حكاياتنا الشفهية، فالتنوع في الجغرافيا والتنوع في العادات والتقاليد، أنتج مخزونا غير هينٍ من الحكايات التي ينبغي أن تُصان بالكتابة وإعادة الحكي، وقد أخبرتني دينيس أنّها فُتنت بالتنوع الحكائي بجوار التنوع في اللهجات. وبجوار الموهبة، تحضر المفردات ولغة الجسد، ونبرة الصوت وإيقاعه، والترابط المتقن لحبكة الأحداث.. كل هذا يخلقُ التأثير على المتلقي، «لقد وجدتُ في عُمان أسماء يمكن لأحدنا أن يُراهن عليها حقا».
دينيس التي ترتد لطفولتها، مستعيدة موقد النار والدفء الذي تصنعه حكايات والدها مدير المدرسة في طفولة باكرة. تلك الحكايات التي تصنع فارقا لطفلة صغيرة وقت التهجير القسري، وقت غياب الشعور بالأمان، حيث يمكن لأحدنا أن يتجلى بكل مخيلته في تلافيف حكاية.. تؤكد على أنّ الحكواتي يملكُ الشرعية لإعمال خياله، ليغدو في تقديرها مبدعا وليس مجرد ناقل، «فالحكاية تذهب دوما إلى الأمام، لضمان استمراريتها، لذلك لابد أن يكون الحكواتي مثابرًا وناقدًا وقادرًا على تهذيب بعض المفردات والمفاهيم في التراث والثقافة العربية».
ربما يُكابدني الوجع لأنّي أهملتُ قصص جدتي، ولكن الأثر العميق ما يزال باقيا، فلن أبالغ إن قلتُ بأننا ككتاب قصص وروايات وكتاب مسرح وفنانين خرجنا كلنا من عباءة الحكواتي القديم.