نوافذ: حلمٌ يُعيدُ فلج «صعراء» للحياة !

26 نوفمبر 2023
26 نوفمبر 2023

«حلمتُ والدي المتوفى يُناديني في مزرعة خضراء في الجانب الشرقي من واحة صعراء بالبريمي، أخبرني بأنّه لا يستطيع المشي ويريد الذهاب إلى حوض الماء، فتوكأ على كتفي»، هذا ما أخبرنا به طالب بن أحمد الجابري -عندما دُعيت من قِبل صديقات عزيزات لزيارة الواحة أثناء إقامتي أيام الملتقى الأدبي٢٦- ولم أكن أعلم بوجود قصّة عجائبية وراء المكان الخلاب! عاش الجابري طفولته في واحة صعراء -التي يبلغ عمر فلجها أكثر من ٣٠٠٠ سنة- راكضا بين بيوتها ومزارعها، فتناقص ماء الفلج حتى جفّ عام ٢٠٠٠ بصورة نهائية، فتوجع الناس وماتت الواحة لأكثر من ١٥ عاما!

«عندما كنتُ أذهب إلى مسجد الشريعة أشعر بغضب داخلي؛ لأنّي أرى مباني الجانب الآخر بوضوح، بعد أن كانت تحجبها كثافة الأشجار»، فتتبع الجابري -بخبرة بدائية- أمهات الفلج، حاول جاهدا إقناع الأهالي بوجود حياة ما، لكنّ أحدا لم يصدقه، فالانهيارات والانسدادات حبسته في أعماق سحيقة. «لم أكن أستطيع بمفردي فعل شيء ما، كنتُ محاصرا بالرفض من المؤسسة الرسمية ومن الأهالي؛ لأنّه مشروع مُكلف وبلا ضمانات!»

في صورة بالغة الدراماتيكية تبدى للجابري أنّ والده الذي يناديه في الأحلام هو الفلج المحبوس والراغب في أن تدب فيه الحياة. فقد كان الفلج الحزين بلا «وكيل» يرعاه، بينما الزحف العمراني والمخططات السكنية تكاد تمحو أي أثر له!

في البدايات خسر الجابري فسحة الدعم المالي لكنه حصل على غطاء قانوني، فأخبر أمّه بما عقد العزم عليه، فذهلت لأنّ حلم ابنها تجاوز المنطق فلا يسكن الفلج إلا الثعابين والشياطين! لكنها عندما لاحظت إصراره المتين قالت: «ليس لدي ما أعطيك إياه غير عصا تهش بها ما يعترض طريقك والدعاء».

حاصره الجميع بالتخلي، فقرر أن يُوثق لحظاته عبر صفحته في السوشال ميديا بواسطة كاميرا معلقة على رؤوس العمال تبث العمل أولا بأول، لكن مرّت الأيام ولم يكن ثمّة تجاوب يذكر!

بعدها جاء اثنان من إخوته لمعاضدته، ثمّ جاء أبناء وكيل الفلج يحركهم الفضول والشغف، فجلسوا على حصير تحت السمرة يترقبون المجهول الذي ستكشفُ عنه الأيام!

حفر «الشيول» إلى عمق ٧ أمتار! ثمّ اضطر لاستئجار «حفار» من صحار، بلغت يوميته ١٦٠ ريالا والناقلة التي تحمله وتعيده ٢٢٠ ريالا.

«استمر الأمر لمدة أسبوعين، حتى وصلنا إلى سقف قناة الفلج بعمق ١٤ مترا، ولم يعد الحفار قادرا على التعمق أكثر، فطلبتُ من صاحبه وضع درج لنتمكن من إخراج الطمي بأيدينا.

أنزلني العمال بالحبل، مصحوبا بعصا أمّي ومصباح إضاءة وهاتفي للتوثيق، فتمكنتُ من إحداث فتحة صغيرة، فرأيتُ منظرا لا يمكن لي أن أنساه ما حييت. رأيتُ الماء المحبوس في الأعماق، ولم أعرف آنذاك إن كان عليّ أن أبكي أو أن أبتهج، استعدتُ الحلم فسلمتُ على «أبي» الفلج: السلام عليك يا أبي، أعتذر لأنّنا تأخرنا عليك، وأعدك ألا نرفع أيدينا عنك حتى نوصلك لأمّنا قاصدا «الواحة».

رفع الجابري التغطية على صفحته، فانتشر المقطع هذه المرّة بصورة لافتة، فقد رأى الناس لأول مرّة قناة الفلج من الأسفل وكمية المياه المسجونة.

بالتزكية أصبح الجابري وكيلا للفلج الذي فُتح له حساب خاص، فبدأ العمل المؤسسي بتشكيل فريق متكامل، وخلال أيام قليلة جمعوا أكثر من ١٣٠ ألف ريال من الأهالي فقط.

«في يوم ٢٧ يناير ٢٠١٧، بعد صلاة العشاء، تدفقت الحياة في شرايين الفلج الميتة، وحلقت البشرى في أرجاء البريمي، فاستقبله الناس بالأهازيج والغناء، وبقينا حتى الواحدة ليلا غير مُصدقين. عانقتُ أمّي الفرحة: أبوك رجع».

آنذاك تأكدت الجهات الرسمية من صدق النوايا وجديتها فبدأت المساندة الحقيقية فحصلوا على مكرمة سامية تُقدر بمليون ونصف من جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، ثمّ أكمل السلطان هيثم بن طارق الخُطى النبيلة.

أدرج الفلج في رؤية عمان ٢٠٤٠، وانتقلت هذه التجربة لإنعاش أفلاج أخرى في عُمان، كما سافر الجابري لبلدان شتى ليتحدث عن تجربته.

شاهدتُ بعيني الصور القديمة التي تُظهر الواحة القاحلة وكيف تحولت لجنة خضراء. ثمّة بط يسبح وممشى رياضي، وفرق مغامرين تمضي، وأكشاك للأسر المنتجة، فسحة صغيرة لقراءة تاريخ الأجداد وشقائهم، وفي رأس الجابري وفريقه أحلام أخرى لإحياء البيوت القديمة، شعرتُ بتأثر شديد وهو يقول: «لا أريد أن أرى شجرة ميتة هنا».

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى