نوافذ: حاصلُ طرح الموتى!
أشعل الصبية النار فأحرقوا غُرابا حيا. شنقوه بحبلٍ مُعلق في شجرة البيذام وأنزلوه بتمهلٍ مُعذِب، لتملأ حارتنا رائحة لحمه المحروق، بينما يستمتع الصبية بزعيقه وارتجافات أجنحته الأخيرة.
في تلك الطفولة البعيدة، لم تستطع الدموع تغيير مجرى الأحداث، كما لم نستطع نحن المتفرجين فهم مبعث كلّ تلك الشرور!
لم تخلُ الطفولة من عنفٍ وتدبير مكائد -ربما نرتعشُ الآن لمجرد تذكرها- فقد وجد الصغار لذة آسرة في فَنَاء كائنات ضعيفة ولاهثة.. فئرانٌ تُلقى في مياه مغلية، عصافير تُكسر أعناقها بين أصبعين، شوكة نخل تُغرس -دون شفقة- في قفا حشرة السيكادا...
عبرت تلك الأيام مُتسائلين عن براءة مفقودة تُصورها لنا القصص وأفلام الكرتون.. فمن أين ينبع التوحش الطفولي وقسوته الفادحة!
استعدتُ أشقياء الطفولة، عندما قرأتُ رواية "حاصل الطّرح" للكاتبة التشيلية أليا ترابوكو ثيران التي تنتمي إلى الجيل الثالث من كُتّاب الواقعية السحرية، ترجمة محمد الفولي. فقد كان "فيليبي" يُريد أن يرى ببغاؤه من الداخل، مُستجيبا لكلام جدّته التي قالت: "لا أهمية للكيفية التي يبدو عليها الناس من الخارج، فهي أمور سطحية يا بني، ما يهم حقا هو كيف هم من الداخل"، فتساءل "فيليبي" بفضول -وبفهم حرفي- عمّا يكمن داخل ببغائه!
في الخارج كان الريش الأخضر وفي الداخل وجد دماءً وعظام.. هكذا بدأ "فيليبي" عملية الطرح الأولى.. فالببغاء كان أول من يموت بالنسبة إليه. أمّا الدجاجات التي أطعمها حبوب التسمين، فقد فقدتْ وعيها وبدت ميتة تماما، وتسببت تلك الحادثة في طرده من بيت الجدّة.
يؤكد لنا "فيليبي" دوما أنّ العمليات الحسابية ليست مثالية، فالولادات لا تُساوي عدد الموتى أو القتلى أو المفقودين في المقابر الجماعية، وعندما ينبعثُ أحد الموتى من قبره، كما حدث عندما نُبش قبر الشاعر "نيرودا"، الذي "يُقال بأنّه تعرّض للاغتيال على يد الانقلابيين"، فذلك أمر يُصعّب الحسبة الرياضية ويجعلها أكثر تعقيدا.. إذ لا يمكن الوصول إلى رقم مثالي!
عندما مات شابٌ في عمر الواحد والثلاثين عاما استشعر "فيليبي" أنّ الموت لم يعد بعيدا عنه كما حصل عندما مات ببغاؤه، فالموت يقترب أكثر من أي وقتٍ مضى، وأكاد أجزم أنّ الأولاد الأشقياء عندما كبروا قليلا، أدركوا أنّ ما فعلوه في طفولتهم لم يكن مُسليا كما ظنوا.
يتساءل "فيليبي" إن كان عليه أن يجمع أو أن يطرح، إن كان عليه أن يُضيف أو أن يستبعد، يدفن أو ينبش!! في وقت لا يُذكر فيه أسماء القتلى، ظانين أنّ التجاهل يمحو الأجساد ويمحو الألم، بينما الذاكرة التي تعمل بشكل مُضاد كخارطة جغرافية تُعيد الأشياء لأماكنها.
هنالك أيضا قصّة مجاورة لقصّة "فيليبي"، قصّة امرأة مُعارضة خرجتْ من تشيلي وماتت في ألمانيا، لكنها أرادت أن تُدفن في موطنها الأصلي، فتاهتْ الجثة وذهبت إلى الأرجنتين..
لكن ما أهمية تحديد المكان الذي سندفن فيه؟ وهل يحدث أمرٌ مشابه مع عصفور مُهاجر أو مع أسراب من الجراد أو مع فرس النهر؟ لماذا يُشكل "الموطن الأصلي" كل هذا المعنى للإنسان؟
في رحلة البحث عن الجثة، يضطر الأبطال الثلاثة لأن يناموا في الجزء الخلفي المُخصص للأموات، فتتداخل ذكرياتهم، ونكتشف نسيج حياتهم الهش وهم يُواجهون ماضي عوائلهم المُظلم في ظل ديكتاتورية "بينوشيه"، وكأنّهم ليسوا إلا صدى لتلك الحيوات، وكأنّ الأجيال تتوارث الجرح!
تذكرتُ أيضا المفارقة اللافتة في الفيلم المصري "من أجل زيكو" عندما قرر الأب اليائس أن يُقل عائلته من أجل حلم وهمي في سيارة مُخصصة لنقل الموتى، في تضاد يرمز لهذا التداخل الشبحي بين الأحياء والأموات.
ويتبدى لنا كم أنّ الموت عمل شاق في رواية خالد خليفة "الموت عمل شاق"، عندما تشقُ السيارة طريقها من الشام إلى "العنابية" حاملة جثة رجل أوصى بدفنه في قريته، بينما الحرب تطحن الأبرياء بين أضراسها.
وجوار أسئلة كثيرة، تطرح رواية "حاصل الطّرح" هذا السؤال: هل نشعر بالذنب لأنّ هنالك من مات؟ بسببنا أو بسبب الآخرين، أو لمجرد أنّ أحدهم دخل عملية الطرح المباغتة هذه!