نوافذ: النساءُ العدوات
النساء اللواتي ينظرن لبعضهن البعض نظرة عداء، لمجرد أن إحداهن تعيش حياة مختلفة، والرغبة الخفية بينهن لتنغيص شيء ما، أو لجعله بلا معنى.. هي أشياء أود دوما أن أتحدث عنها، فثمّة ما لا يُحكى ويبقى خفيا ونائما، ولكن تفاصيل صغيرة يمكن أن تدفع وحشا نائما لأن يستيقظ. هكذا هن بعض النساء.. يُحدثن الألم لبعضهن البعض. إذ يبدو إنّه من الصعب تقبل امرأة تسمح لأفكارها أن تمضي في اتجاه آخر. هنالك محاولات شرسة -من النساء أكثر من الرجال أحيانا- لإعادتها، وكأننا جميعا ينبغي أن نمضي في مسار واحد.
ربما يحدث ذلك؛ لأنّهن ضائعات بين النصّ المثال منذ أربعة عشر قرنا وبين الواقع الغليظ كما يُشير الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابة «دوائر الخوف.. قراءة في خطاب المرأة»، فثمّة خطاب سلطوي قاهر وعاجز عن الإنصات يدعي امتلاك الحقيقة المستمدة من السماوي، يسلبُ إرادتها الحرّة، لكنها لا تريد أن تكون المستلبة الوحيدة، تأمل أيضا لو أنّ الأخريات يجلسن معها تحت سقف منخفض من الخيارات!
المسألة شديدة التعقيد، فالمرأة المستلبة من قبل ظرف اجتماعي أو خطاب مؤدلج تبدو لي أكثر ميلًا لاستلاب ما تتمتع به المرأة الأخرى من حياة متعددة التصورات والآفاق.
يرى أبو زيد أنّ الأمّة العربية عندما تُعاني من حالة ركود اقتصادي وسياسي واجتماعي، تطفو على سطحها الأسئلة المتعلقة بالمرأة، فتحبسُ في أيقونة «الكائن العاطفي» الهش، الذي يجعلها في مصاف الكائن العاجز عن اتخاذ أبسط القرارات التي تخص حياتها، وتتكاثر حولها الآراء المُعلبة والمكرورة كونها أخذت حقوقها منذ أكثر من 14 قرنا، فلديها حق التملك وحق الخلع وحق العمل، وهنا تمضي حياة المرأة في ازدواجية مُرعبة بين النص المثال والواقع الغليظ!
يلفتُ انتباهي محاولة البعض- من المتعلمين- وأد زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم وحتى أمهاتهم، وكأنهن مجرد ظلال لوجودهم، والمخيف حقا أن تخرج هذه الأصوات المُتشنجة من قبل جيل مُتعلم يصبو إلى طمس حضور المرأة عبر اختصارها في صورة الكائن المُتهندم والمُنتظِر، الكائن الذي لا يُصدر الشكوى بقدر ما يقوم بعملية الاحتواء، ولذا نجد الخطاب المتطرف يدعوها دوما لاحتواء الآخر واحتماله مهما تبدت مصائبه وفوضاه وخطاياه!
ولأن كل مجتمع يضع حمولته الثقافية والاجتماعية في تأويل خطاب ما، نجد على سبيل المثال مقولة «النساء ناقصات عقل ودين» أكثر ظهورا من جملة «النساء شقائق الرجال»، كما أنّ مقولة ساذجة من قبيل «المرأة جوهرة ينبغي أن نصونها»، هي سبب آخر لاختصارها ضمن أدوار مُحددة تكمن في تهيئة عش الزوجية لا في تحقيق ذاتها واستقلاليتها المادية.
والعجيب حقا أنّ هذه المرأة المخفية تماما من الحياة، المرجومة بخطابات منتهية الصلاحية، الضحية والمتواطئة في آن، تبعثُ من داخلها جلادا يضرب الأخريات اللواتي اخترن أو توفرت لهن الظروف ليعشن خارج الإطار المحدد سلفا.
البعض يرمم هزيمته السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعودة تامّة إلى التراث، والبعض الآخر بقطيعة تامّة معه، ويرى أبو زيد أهمية تفنيده وأخذ ما يعقل منه، ويضرب قصة خروج آدم وحواء من الجنة كمثال على ذلك، فتلك التصورات التي قدّمت آدم كضحية وحواء ككائن شرير، ينبغي التعامل معها بحذر شديد.
أكثر فكرة لافتة وجدتها في هذا الكتاب، تلك التي تشير إلى أنّ «النصّ محدود بينما الواقع غير محدود»، ولذا تبرز أهمية الاجتهاد الذي يجعلنا نتجاوز الهوة الكبيرة بين صورة المثال وواقعنا الغليظ، لتبدو حياتنا أكثر انسجاما مع مستجدات عصرنا الحديث، ويقارن أبو زيد بمثال صغير، فقد تتلقى امرأة بدوية النص القرآني على سبيل المثال بطريقة مختلفة عن امرأة في الأندلس، فهذه الأخيرة قد تشترط في عقد الزواج ألا يتزوج عليها زوجها وألا يعدد وألا يغيب عنها فترة طويلة، الأمر الذي يُدلل على مرونة النص ومناسبته لكل زمان ومكان، فالجوهري في النص ديناميكي وغير مستكين، ويوفر قراءة أوسع مما قد يحصرنا فيه التراث.
ومن يدري.. ربما عندما يخفتُ احتقان الفهم والإسقاط الجاهز والمفرغ من المعنى، ربما تنزاح النساء العدوات عن الطريق قليلا.