نوافذ : المساحات الفارغة!
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
قليل من الناس من لم يشغلهم الجزء الفارغ من الكأس، وهذه القلة هي التي تستصوب القناعة كمنهج لحياتها، وليس معنى ذلك أن لا تشغلهم المساحات الفارغة، والصفحات البيضاء في كتاب حيواتهم اليومية، ولكن لأنهم على يقين أن الوصول إلى الغايات؛ أمر بعيد المنال، بل هو من جملة المستحيلات في هذه الحياة، فمن المسلم به، أننا كلما قطعنا شوطا في أمر ما؛ تبين لنا بُعد الخروج من النفق المظلم، وأن الطريق لا يزال يتقصى الكثير من المسافات، وأن لا بد من أن تكون هناك نقطة أخرى تتيح لنا فرصة التروي والتقييم لمواصلة السير من عدمه، ونظل هكذا؛ وعلى هذه الوتيرة، حتى نغادر هذه الحياة دون أن نصل وأن نكمل ما تبقى من فراغ الكأس الذي يراودنا الشعور أنه في يوم من الأيام سوف نملأ ما تبقى من هذا الفراغ.
يتقاتل الناس؛ في كل زمان ومكان؛ لتحقيق هذه الغاية، سواء على المستوى الشخصي؛ حيث الذات ونداءاتها وتحفيزاتها المؤذية؛ في كثير من الأحيان، وإما تلبية لنداءات الذوات الجماعية (قرية، مدينة؛ ولاية؛ وطن) وفي هذه الذوات الجماعية تتماهى القدرات الفردية في القدرة الجامعة، ولكن مع وجود هذه القدرة الجامعة، لا تزال تصويبات السهام مستمرة نحو النقص، ويكثر الحديث عن أن فراغ الكأس لا يزال عميقا، فتكثر الاتهامات، والتخوينات، والنمائم، وبيع الذمم، وخائنة الأعين، وما تخفي الصدور، ويحدث هذا لأن كل هذه المنظومة الاجتماعية يشكلها بشر، والبشر موسومون بالنقص، وبالتقصير، وبضعف الأداء، ومتى كان للإنسان مبلغ الفعل ومنتهاه؟
(المساحات الفارغة ..!) مشروع إنساني طويل الأجل، وعميق الأثر، متى راودنا الشعور بإقصائه، أو الانتهاء منه، متى وجدنا أنفسنا أننا لا نزال في مربعنا الأول، «... ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ...» ولكن مع هذه الحقيقة الصادمة، تشق الدعوة طريقها نحو العمل، والمثابرة، والمحاولة في الأولى، وفي الثانية، وفي الثالثة وفي ... ولا يعذر الإنسان عن الجهد والاجتهاد لملأ ما تبقى من فراغ الكأس، فالكؤوس المترعة والطاغية والمدهقة بحمولتها تبقى أكثر زهوة «إشراقة» ومعبرة عن وسط غني بفعله وعطائه، وإن كانت قليلة، فاكتساح المساحات الفارغة، وملأها، وتقصي كل فراغ فيها، ليس يسيرا، ويبقى في حكم الاستثناء، والقصور المعني هنا؛ ليس ماديا بالضرورة، وإنما معنويا بامتياز، فالمادية متحققة في كثير من كؤوس مشروعاتنا في الحياة، ولكننا لا نكتفي بكأس لنملأ ما تبقى فيه من فراغ، بل نذهب إلى الكأس الثاني، والثالث، والرابع، وبعدها نتوه بين هذه الكؤوس الكثيرة، فلا نجد أنفسنا إلا وسط المساحات الفارغة؛ حيث تتوه بنا الدروب.
تظل الحياة مترعة بكؤوسها، ويبقى جل هذه الكؤوس متموضعة على أجزاء من فراغاتها، ففعل الإنسان مهما بلغ به الكمال؛ مبلغه، لن يصل إلى الكمال، مع أنه ينشد هذا الكمال، ويهرول نحوه ليل نهار، ويهذي به كهذيان المريض من أثر الحمى، ومع ذلك كله لا يزال عند مستوى النصف المملوء من الكأس، أو فوقه بقليل، فطاقاتنا محدودة، ورؤانا قصيرة، وآمالنا؛ مهما بلغ بها الطموح؛ تظل متواضعة، لأن أخطاءنا - في المقابل - أكثر من تصويباتنا؛ هكذا خلقنا.