نوافذ: المجتمع ليس بحاجة للشعر!
«ما حمى الشعر هو أنّ المجتمع لم يعد بحاجة إليه»، أذكرُ أني بقيتُ مذهولة لبرهة من الزمن، من عنف هذه الجملة التي قالها لي الشاعر «بول شاوول» في حواري معه بمقهى «ليناس»، في بيروت قبل عشر سنوات تقريبا، وقد أردف آنذاك قائلا: «جابر عصفور صديقي، قال إننا نعيش في زمن الرواية، وهذا الكلام خطأ، فإذا كان المعيار أنّ الرواية تباع أكثر، فطوال عمرها وهي تباع أكثر من الشعر. رامبو باع 3 نسخ فقط من أحد كتبه، مالارميه باع 37 نسخة، ومشى في جنازة بودلير كلب ورجلان، بينما كانت روايات بلزاك، ديستويفسكي، وتولستوي تباع بشكل جيد». ثمّ أوضح لي الأمر قائلا: «الشعر هو خميرة الثقافة، والعولمة لا تستهدف الشعر لأنّه غير مربح بالنسبة لها، الشعر مثل عشبة رقيقة تنبتُ خلف صخرة، فلا يراها أحد أو يشمها».
تذكرتُ هذا الحوار البعيد نسبيا، وأنا اقرأ كتاب «الرحيل فن سهل التعلم» والذي ضمّ بين دفتيه شعر شاعرات مُعاصرات، ترجمة: ستيفاني دالال، منشورات حياة 2022. كنتُ أفكر أثناء القراءة إن كان الشعر مكتفيا بعزلته، فكيف يمكن للمجتمعات أن تصمد دونه؟ كيف لها ألا تصاب بالذعر من واقعها شديد العتمة! وكيف تغدو المجتمعات دون أن تغرز الكلمات أظافرها فيها!.
لثلاثة أيام متتالية، كنتُ تحت الجلد الشفاف للشعر، أعثرُ على نفسي في كل مرّة، أعثرُ على الآخرين أيضا، فإن بدا الشعر تجربة شديدة الذاتية، إلا أنّه يكشفُ الجوانب المظلمة منا، وبطريقة ما يجعلنا نتفهم أنفسنا -كقراء- ونتعاطف معها.
تُعري «لانغ ليف» فكرة التمسك على سبيل المثال، فحتى لو امتدت الأيدي إلينا ليس بالضرورة أن تهبنا الشعور بالانتماء لشيء أو لمكان، فبينما نظن أنّ الوقوع في الحبّ يعني التمسك، نكتشفُ أنّه الإفلات أصبعا تلو الآخر. تحكي «أماندا لوفليس»، عن موت الأمهات، فهو ليس كما يبدو في الحكايات الخرافية، وتبرر الأمر: لعدم وجود راوٍ يُلقنها كيف تتجاوز الموت، إذ لا يمكننا معالجة قسوة رحيل الأمّهات بجمل مُعلبة، هكذا يتعمقُ السؤال ويكبر حول الخوف من الرحيل دون وداع كافٍ!.
تنشغل «كيليتن سيل» بالنمو الجسدي المباغت، لنتأكد أنّ الشعر غير متناءِِ، إنّه يلمسُ تحولاتنا الجسدية والشعورية ويتسعُ لانفعالاتنا الشرسة.
يلتحمُ الشعر بالأساطير والحكايات والنصوص المقدسة، فتعرجُ «كيليتين» على قصّة حواء والتمرد البدئي في الكون، وكيف أنّها تُصر على أن تُعلم ابنتها قول كلمة «لا».
بينما تستدعي «كليمنتين فون راديكس»، قصّة الألماس الذي كان حتى عام 1938 مجرد حجر، لكن ربطه بالحبّ في السينما جعله ثمينا، ثمّ تطرح السؤال الأهم: كيف نفهمُ خسارتنا عندما تغيبُ عنا قيمة الأشياء!
تهتم «سابرينا بينايم» باليومي والعابر، ذاك الذي قد لا يكترثُ أحد بتدوينه، تشرحُ كيف تقضي العازبة يومها دون أحد، وكيف تمتلك كل شيء عدا الصحبة، تحكي تناولها للأدوية ومضادات الذهان، وما يعبر يومها البسيط. وعندما يسألُ المُعالج عن اضطراب طعامها، تُجيب بطريقة تجعلنا نقشعر: «ليتني كنتُ نبتة فوشيا وزهرة، كل ما عليّ ابتلاعه هو الشمس».
ينعدمُ إحساس «روبي كور» بذاتها، فتغدو غير مرئية. الحفر في هذه الفكرة، يُحيلنا للشعور الذي تعبره النساء بصمت، ذلك الإحساس بمأزق الجمال! وليس بعيدا عن ذلك تتساءل «أوبيليه تشيسالا»: «ألا أستطيع أن أكون امرأة سوداء تحبُّ كونها ذلك فحسب؟ دون الحاجة لأن تكون متأسفة؟». ويتكون بداخل «نيرة وحيد» كائن ينمو من مياهها وأعضائها، ثم يتحول لروح قاسية، بينما تربط «ميجان فالي» بؤس العالم وحروبه بأحمر الشفاه!
ذكرتني «نيكيتا جيل» مجددا بما ذهب إليه بول شاوول، عندما تحدثت عن الزهرة البرية التي تنهضُ كلّ مرّة عقب أن تُداس، تنمو وتتفتح في أكثر الأماكن تشققا، تفعلُ ذلك بصدق عميق دون أن تحفل بنا نحن المارّة، وقبل أن نُدرك -بصفتنا قراء- ماذا يمكن لانتباهة صغيرة للشعر أن تُحدث فينا!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى